الرأي

كتاب الله وقرآن بوكروح

التهامي مجوري
  • 4985
  • 0

كتب نور الدين بوكروح منذ مدة ليست بالطويلة، سلسلة مقالات بالفرنسية، يدعو فيها إلى إعادة ترتيب القرآن الكريم وفق النزول، ثم كرر هذه الدعوة في حوار أجرته معه الشروق اليومي، وعلل دعوته بأن فهم القرآن وفق النزول يختلف عن فهمه وفق الترتيب الحالي، ثم برر دعوته هذه بأن القرآن الذي بين أيدينا هو قرآن عثمان..، ولا ندري أهذه التسمية “قرآن عثمان” من وضعه هو أم هي من اقتباسه عن آخرين؟

ونور الدين بوكروح رقم ثقافته الواسعة وقِدَم نضاله، لم يعرف عنه أن له علاقة بالدراسات القرآنية، وبدراسات علوم الوحي عموما، وإنما هو سياسي مثقف، يمكن أن يقول أي شيء في أي موضوع، ارتجالا واندفاعا، انطلاقا من أوهام توهمها، أو من معارف سابقة له قلَّت أو كثرت لا تؤهله للكلام في هذا الموضوع، لأن القرآن من حيث المبدأ متاب منزل لا يقال فيه بمجرد الرأي المنفصل عن المعتقدات والموروث الثقافي، المنتسب له، وهنا بقدر ما أقدر في بوكروح روح النضال وسعة الاطلاع، ألومه وأعاتبه على خوضه في القرآن بآليات دخيلة عليه وبروح بعيدة عن روحه، ألا وهي محاكمة القرآن للعلوم الإنسانية المنفصلة عن مبادئه وغاياته. 

وما يضطرني للقول بأن ما دعا إليه بوكروح مجرد أوهام، ما ذكره من أن إعادة ترتيب القرآن وفق أسباب النزول، له علاقة عضوية بالنص القرآني، أي أن علاقة نزول النص بمناسبة ما مرتبط بها، ومن ثم فإن ذهاب تلك الحادثة يبطل التمسك بالنص الذي نزل بسببها، في حين أن القرآن مطلق وليس مرتبطا بسبب وروده، ولذلك قال العلماء من أهل الإختصاص “العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب”، أي أن المناسبة التي نزل بسببها القرآن، ليست هي المؤثر فيه، وارتباطها به لا يزيد عن كونها تساعد على فهمه، وإذا ما زالت تلك الحادثة أو المناسبة، يبقى النص ساري المفعول إلى أن تقوم الساعة؛ لأن النص مطلق وممتد بارتباطه بحركية الزمان والمكان والإنسان، وبكل ما يطرأ من تغيرات على هذه العوالم الثلاثة، بحيث يبقى النص ساري المفعول إلى أن تقوم الساعة، إلا ما دل من النص نفسه والدليل الشرعي والعقلي، على أنه خاص بمناسبة أو حالة ما، مثل أحكام العبيد والإماء، فالنص بقي ولكن العبيد لم يبق لهم وجود الآن، فذلك يعني أن النص اليوم متعلق بأمر غير موجود، فلا يلغى وإنما قد تكون له وظيفة أخرى لا نعلمها؛ لأن هذا النص كلام الله، وهو كلام ليس ككلام البشر، نص مطلق والفهم له نسبي.

إن القرآن نزل منجما، موزعةٌ آياته على ثلاث وعشرين سنة، ولكن عندما كان ينزل، سورا وآيات، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر كُتَّابه بأن يضعوا السور والآيات في مواقع هو الذي يخبرهم بها، فإذا نزلت آية مثلا يقول لهم ضعوها بين الآية كذا والآية كذا، وإذا كانت سورة أمرهم بأن يضعوها بين السورتين كذا وكذا، ومن ثم فإن الترتيب للآيات والسور توقيفيا كما يقول أهل الاختصاص، أي بأمر من الله وليس اختيارا من أحد من الناس، أما عمل الخليفة عثمان رضي الله عنه في القرآن الكريم، فلم يتدخل في ترتيب القرآن ولا في شيء منه إثباتا أو حذفا، وتقديما أو تأخيرا، كما يوهم كلام بوكروح، وإنما الذي وقع، هو انه امر كُتَّاب الوحي بوصفه رئيس دولة مسؤول على القرآن كما هو مسؤول على حياة الناس، أن يجتمعوا، ويجمعون القرآن من الصحف التي كتبت من قبل، وجمع الأمة على مصحف واحد، من مجموع ما كتبه المسلمون يومها، وأمر بحرق جميع الصحف التي كتبت، وسمي ذاك المصحف بالمصحف الإمام.

والسبب في ذلك أن العرب لم تكن تدون، وإنما كانوا يعتمدون على الحفظ، ولكن في حروب الردة في خلافة أبو بكر رضي الله عنه، استشهد الكثير من الحفاظ، فخيف على القرآن من الضياع، فأمر أبو بكر رضي الله المسلمين بكتابة القرآن حتى لا يضيع بسبب موت الحفاظ، فكُتِب القرآن بمبادرات فردية من الصحابة، ثم واصل عمر على نفس النهج، في الحرص على التدوين، وبلغ بعمر الحرص على حفظ القرآن ونصوصه كما انزلها الله، انه منع الناس من الانشغال بالحديث على حساب القرآن.

وفي خلافة عثمان رضي الله عنه، جمع الخليفة عثمان كُتَّاب الوحي، كما ألمحنا فيما سبق، باعتبارهم من كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأمرهم بجمع ما كتب هنا وهناك، وعرضه على محفوظاتهم وعلى ما اجتمعوا عليه، فما أجمعوا عليه يدون مباشرة، وإذا اختلفوا في أمر ما، في لفظ أو جملة بأي لفظ من الألفاظ العربية نزلت، فليكتبوا ما اختلفوا عليه بلغة قريش؛ لأن لغة قريش هي الجامعة بين القبائل العربية، بلاغة وبيانا وسلاسة ودقة وجمعا للقبائل العربية، فكانت لغة قريش بالنسبة للقبائل العربية ولهجاتها يومها، كواقع اللغة العربية بين الشعوب العربية اليوم، مقارنة بلهجاتهم التي يستعملونها في مخاطبة بعضهم البعض.

والاختلاف بين العرب يومها –وهم الصحابة- لا يعني أنهم تصرفوا في كلام الله، وإنما لأن القرآن نزل بأسبعة أحرف، وهذه الأحرف كما يقول العلماء تمثل ما بين القبائل العربية من اختلاف في النطق والتعبير والأحرف العربية نفسها، والأمر لا نستطيع الآن تصوره بالضبط كيف كان؟، وإنما يمكن فهمه بالنظر إلى واقع العرب والمسلمين اليوم. فالجيم مثلا يُختلف في نطقه بين المصري وغيره من العرب، والقاف بين اليمني وغيره، والواو بيت التركي والعربي، والقاف والغين من جهة إلى أخرى في الجزائر، وكل هذه الاختلافات بين العرب والمسلمين، الضابط فيها هو اللغة العربية الأصيلة والقرآن الكريم، ولذلك لا نجد أثرا لهذه الإختلافات عند من درسوا القرآن واللغة العربية مهما اختلفت لغاتهم؛ بل ودياناتهم أيضا، فالنصارى العرب مثلا لا يختلفون مع المسلمين العرب في فهمهم للغة العربية.  

فالقرآن الذي بين أيدينا، هو كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، مرتب ترتيبا كما أراده الله، وليس من ترتيب عثمان أو غيره من الصحابة رضي الله عنهم، وإنما كان ترتيبه وفق توجيهات النبي الذي أنزل عليه، ولذلك كان الإيمان والتعبد به كتلة واحدة في ترتيبه وألفاظه ومعانيه، مشكَّلَة من سور وآيات وألفاظ وأحكام، كالكون تماما، فيه كواكب وفصولا ووظائف، ومثلما لا نستطيع أن نفكر في تجزئة الكون وتقطيعه وإعادة النظر في ترتيبه، لا يمكن ان نفكر في تقطيع القرآن وتجزئته وإعادة ترتيبه؛ لأن مواقع الآيات والسور فيه، كمواقع النجوم في السماء، كما قال المفكر السوداني أبو القاسم حاج حمد رحمه الله (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ، إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ، لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ) [الواقعة 75 – 80].

والقرآن من هذه الناحية أيضا، إضافة إلى أمور أخرى لا مجال للخوض فيها الآن، كتاب هداية ومعجزة، وعلاقة أجزائه وسوره ببعضها البعض، من الإعجاز الذي لا ينبغي التدخل فيه وإلا اهتزت منظومته الهدائية والعرفية، ككتاب هداية ومصدر للمعرفة في عالم الإنسان والقيم.

إن سور القرآن الكريم وآياته وبناؤها، رغم أن بعضها نزل في فترات متباعدة عن بعضها الآخر، له وحدة نظامية فيما بين سوره، تفضي إلى وحدة تصورية معرفية، ووحدة موضوعية فيما بين آياته في السورة الواحدة، لها بعدها التربوي والتشريعي، ومجموع ذلك يشكل بناء عقديا فكريا بيانيا وتشريعيا معرفيا عجيب..، وكل تدخل في هذا الكلام الذي ليس كمثله كلام، سواء في العبارات أو في التراكيب أو في الترتيب بين هذه العبارات أو في الترتيب الزمني بحجة العودة إلى كيفية نزوله، كل ذلك يفسد المنهج والنص وديمومته وهيمنته على العالم المعرفي للإنسان، ويفقد القرآن الخصوصية التي تميز بها عن الكتب السماوية السابقة، وعن غيرها من النصوص.

يتبع…

مقالات ذات صلة