الرأي

“كلمة حق أمام سلطان جائر”

كان من تقدير الحكيم العليم أن يتولى قيادة الجزائر في بداية استرجاع استقلالها الأخ ابن بلة، الذي لم يكن يملك ما يُؤهله لقيادتها من علم، وتجربة تسيير، وحسن تصرف مع مُخالفيه في الرأي، ولا أدلّ على هذا من اضطهاده للذين ذاقوا معه مرارة السجون الفرنسية، حتى اضطر محمد خيضر ورابح بيطاط إلى الفرار، والزجّ بمحمد بوضياف وحسين آيت أحمد، وأحمد طالب الإبراهيمي في السجون الجزائرية، حيث ذاقوا فيها من العذاب النُكُرِ ما أنساهم ما لاقوه في سجون العدوّ الفرنسي، وتربصه بالجماعة التي فرضته بالقوة (بومدين، مدغري، ڤايد أحمد، شريف بلقاسم، بوتفليقة)، ولا أتكلم عن إعدام العقيد شعباني.

 كان الإمام الإبراهيمي يلاحظ سيرة هذا الشخص الجافة، ويراقب سياسته غير الحكيمة، ولكنه لم يُرد أن يُشوش عليه، راجيا أن يعود إلى رشده، ولكنه استمر في ما هو فيه من تعسفٍ واستعلاء.

  افترص الإمام الإبراهيمي حلول الذكرى الرابعة والعشرين لوفاة أخيه الإمام ابن باديس، وقد زامنت هذه الذكرى عقد مؤتمر حزب جبهة التحرير الوطني، فقرر الإمام أن يُبرئ ذمته وأن يصدع بكلمة الحق التي أمر الله ـ عز وجل ـ المؤمنين عامة والعلماء خاصة أن يقولوها مهما يكلفهم ذلك من أذى.

 أصدر الإمام بيانا شنّع فيه على سياسة ابن بلة التي رأى الإمام أنها تؤدي بالإخوة إلى التحارب، والتخبط في أزمة روحية، والتردي في مشاكل اقتصادية عويصة، كما شنّع الإمام في ذلك البيان بالأسس النظرية الأجنبية التي هي غريبة عن وطننا، مناقضة لجذورنا العربية الإسلامية، مُنبها في الوقت نفسه إلى أن الشعب يطمحُ إلى الوحدة والسلام والرفاهية.

 وقد نصح الإمام المسؤولين أن يضربوا المثل في النزاهة، وأن لا يُقيموا وزنا إلا للكفاءة، وأن يجعلوا المصلحة العامة هي الأساس، وأن يعودوا إلى مبدإ الشورى التي أمر الله بها، وحرص رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ على الالتزام بتطبيقها.

 ودعا الإمام في ذلك البيان الجزائريين كي يُشيّدوا “مدينة” تسودها العدالة والحرية، وتقوم على تقوى من الله ورضوان.

 أرعد ذلك الحاكم وزَمْجَرَ، وكاد يبطِش بالإمام لولا أن نبهه بعض العقلاء إلى خطر ما ينوي فعله، فأحجم عن ذلك، وللتاريخ فقد كُلّفَ الصحفي الشريف أحمد فاضلي أن يقرأ في ذلك المؤتمر بيانا مُنددا بالإمام، ولكنه أبى أن يُشوه اسمه ويلطخ تاريخه بقراءة بيان يتهجم على من وصفه الإمام ابن باديس بأنه “فخر علماء الجزائر”، الذي بدأ الجهاد في سبيلها في سنة 1920، أي عندما كان ذلك الحاكم يحبو على أربع.

 وإضافة إلى ذلك البيان الذي مر على نشره خمسون سنة، أنشأ الإمام أبياتا ثلاثة في الموضوع نفسه، وقد أملاها عليّ الشيخ موسى الأحمدي نويوات وهي:

باع أمْنًا و هُدُوَّا       

وخِلالاً أَخَوِيَّهْ

وغدُوًّا ورَوَاحًا      

في فِجَاجِ الوطنيهْ

واشترى لفظا سخيفا 

خَتْمُهُ في النُطْقِ كِيَّهْ

والمقصود باللفظ السخيف هو “الاشتراكية”.

 وما أشبه اليوم بالبارحة، فها هي الجزائر تتراجع في أكثر الميادين، وحتى الميادين التي يزعم الزاعمون أنها تقدمت فيها فهو تقدمٌ أعرج، ولا أدلّ على ذلك من هذه الانتخابات الرئاسية التي جرت كأنها “انتحابات”، أضحك فيها بعضُنا العالم علينا، وانطبق علينا ما جاء في إحدى أغانينا التراثية وهو “الجزائر تبكي وتنوح”.

مقالات ذات صلة