كلنا في الأزمة سواء.. كلنا في الحل سواء
نتوفر على جميع الإمكانات والقدرات لكي نكون بالفعل بلدا نموذجيا، إنْ على الصعيد السياسي أو الاقتصادي، بل نملك عناصر الريادة بامتياز خلافا لدول المنطقة المحيطة بنا.. ما الذي يجعلنا لا نسير باتجاه تقديم الأنموذج بدل الاقتداء بالآخرين؟ ما الذي يجعلنا لا نكون المَثل في الانتقال الديمقراطي والبناء الاقتصادي؟ ما الذي يجعلنا نُخيف بدل أن نُقنع ونُصبح محل ازدراء واحتقار بدل أن نكون محل إعجاب وتقدير؟ لعل ذلك مردّه سيادة منطق خاطئ لدينا ما فتئ يُبنَى على قاعدة خاطئة هي الأخرى تقول: وحدكم أسباب الأزمة ووحدنا أسباب الحل، بدل المنطق الصحيح الذي ينبغي أن يقيم حلوله على أساس قاعدة انطلاق مرتبة ترتيبا سليما تقول: كلنا في الأزمة سواء.. كلنا في الحل سواء.
لا شك بأننا نملك سياسيين من الطراز الأول وإن غمرتهم الأحداث أو أُبعدوا عن الساحة لهذا السبب أو ذاك، ولا نشك أننا نملك الآلاف من رجال الأعمال الأكفاء والوطنيين الذين وجدوا أنفسهم ممنوعين من المساهمة في بناء اقتصاد بلدهم بما يمكّنه من الازدهار والتخلص من التبعية، ولا شك أن الجزائري لا يقل عن غيره حبا للوطن واستعدادا للتضحية من أجله في كل المجالات.. عندما تبحث عن الطاقات الجزائرية تجدها كامنة قادرة على العطاء، إلا أنها مكبّلة بقيود تمنعها من ذلك. كل جزائري هو بذاته طاقة هائلة بإمكانها أن تكون وقود حركة وطنية بناءة وفعالة، وكل جزائرية هي كذلك. ما الذي يحدث حتى أصبحت هذه الطاقات مشتتة وحتى أصبح الكل يبحث عن النجاة بنفسه والكل لا يرى إلا ضمن محيطه الضيق فالأضيق؟ ما الذي يمنع هذه الطاقات الخلاَّقة من أن تجتمع وأن تتحول إلى قوة دافعة تُنتج السلطة الشرعية والدولة القوية، والبلد العادل، والاقتصاد القادر على الصمود أمام التقلبات؟
لا شك أن هناك خللا في مستوى معين، وهناك قوى غير مرئية تعمل على استمراره؟ كيف نكتشفه وكيف يمكننا أن نتجاوزه لنحقق الطموح الذي نتطلع إليه جميعا في أن نكون بالفعل في مستوى الإمكانات والقدرات التي نملك؟
أظن أن مصدر الحال السيئة التي نحن عليها اليوم ذلك المنطق في التحليل القائم على قاعدة تقول باستمرار: أنت ولستُ أنا.. أنت السبب ولست أنا.. أنت المشكلة وأنا الحل.. بدل منطق كلنا السبب وكلنا الحل. وهذا على كافة المستويات: من النزاع حول الأولوية في الطريق إلى النزاع حول الأولوية في الوصول إلى السلطة.
عادة ما نوجّه أصابع الاتهام إلى الآخرين ممن هم في الحكم أو ممن كانوا فيه: أنتم الذين أعدتم تشكيل الفرد بالصيغة المشوّهة التي أصبحنا نراه عليها اليوم في أكثر من مكان: أنتم المسؤولون على القطاعات الاقتصادية وما تعرف من تخريب ونهب كبيرين، أنتم من منعتم الإدارة من أن تتحوّل بحق في خدمة المواطن، أنتم من ساعدتم على المحسوبية وتشجيع الرشوة ورفضتم الكفاءة والأخلاق والقيم… الخ.
ولكننا غالبا ما ننسى طرح السؤال على أنفسنا: وماذا فعلنا نحن؟ وأين كنا نحن؟ وماذا فعلت أنت وأنا؟ لنصل من غير جهد إلى الحل الخاطئ الذي غالبا ما نردّده من غير تمعن:لا إصلاح إلا بتغييره هو.. أما أنا فلا مسؤولية لدي.. نتيجة في الغالب ما تكون مناقضة للمقدمات التي بُني عليها كل التحليل: إذا ما كان الآخر قد أحدث كل ذلك الفساد: فكيف نجوت أنا منه؟ ما الذي يجعلني قادرا أنا الذي خرجت من رحمه أن أغيّره؟ ما الذي مكّنني من أن أُنصّب نفسي مقام موسى (ع) وأنصبه هو مقام فرعون؟
لعله السؤال الذي يطرحه المواطن اليوم في كافة المستويات ويجيب عنه ببساطة متناهية (متناسيا نفسه بالطبع): كلهم في الأزمة سواء كلهم في الحكم سواء.
ولعل ذلك ما يؤدي في آخر المطاف إلى ذلك الانقسام الحاد في الوسط الشعبي، ويُضعف كل تلاحم يمكن أن يقع حول أي من البدائل المطروحة من قبل المعارضة أو السلطة على حد سواء، ويترك الأمر يراوح مكانه لا يسمح لأي كان بالقيام بفعل ذي أثر حقيقي في الواقع، وهي أسوأ حالة يمكن أن تعرفها البلاد، الحالة التي تفسح المجال للصوت المتطرف يعلو على بقية الأصوات: الصوت الرافض لكل شيء أو القابل لكل شيء (التأييد المستمر تطرّف أيضا)، العدوّان اللدودان صوت الحكمة والعقل اللذين ينبغي أن يسودا في هذه الحالات: حيث لا شياطين في جهة وملائكة في جهة أخرى، إنما بشرٌ هنا وهناك ينبغي أن يصلوا إلى حال من الاعتراف المتبادل بالخطإ والاتفاق على الوصول إلى حلول فعلية لتجاوز الحال المرضية التي يعرفونها، وتحقيق التقدم الإيجابي المطلوب.
بمعنى أكثر وضوحا أن الاستقطاب الحاصل في بلدنا بين سلطة “وحدنا” على حق باستمرار، ومعارضة تبعد عن نفسها مسؤولية ما حصل (وحدنا أسباب الحل) هو أساس المشكلة.. ولكنه في ذات الوقت منطلق الحل..
إذا ما وصلنا إلى قناعة أننا كلنا في الأزمة سواء بغضّ النظر عن من ساهم فيها أكثر أو أقل، قبل أو بعد الآخر، فإننا يمكن أن نجد القاعدة المشتركة التي ننطلق منها لإيجاد حل مستقبلي للبلاد. أما إذا ما واصلنا التفكير بمنطق “وَحْدنا” و“وحدهم“، فإن النتيجة ستبقى كما نراها الآن: طرف يتهم الطرف الآخر بكل التهم، وطرف يعتبر نفسه ملاكا والآخر شيطانا بكل المقاييس، مع كل ما يتبع ذلك من خطاب متشنج وعنف لفظي ومواقف غير قابلة للاتقاء، ما تلبث أن تجد صداها في الشارع فيتحول هو الآخر إلى التشنج والعنف والنقاش الذي لا يؤدي إلى أيّ نتيجة، ثم يتحول هذا إلى صدى بدوره إلى فئات متطرفة فلا ترى بديلا لها غير العنف لحل المشكلات.. ما يلبث هو الآخر أن يتحوّل إلى ما اصطلحنا على تسميته إرهابا أعمى لا يعرف سبيلا للحوار.. وهكذا تنغلق الدائرة على الجميع ونمنع المجتمع من أن يتحوّل إلى الديناميكية الطبيعية التي تُمكّنه من إصلاح ذاته والانطلاق في إعادة بناء ما تم تخريبه نتيجة أخطاء الحاكمين والمحكومين معا، إنْ على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي، أو على صعيد القيم.
وعليه فإننا لا يمكن أن ننطلق اليوم أو غدا في بناء مستقبل بلدنا إذا لم نُعد ترتيب قاعدة الانطلاق، أي إعادة ترتيب هذه القاعدة على أساس المسؤولية المشتركة، وإن كان ذلك بدرجات متفاوتة، فيما آلت إليه أوضاع البلاد لكي يكون ذلك هو أساس أيّ وفاق وطني مستقبلي..
وربما لن يجانبنا الصواب إذا قلنا إن الانطلاق من قاعدة تحميل الآخر دون “نحن” حالات الفشل المختلفة، لن تؤدي بنا سوى إلى مزيد من التوتر، وإلى مزيد من إضاعة للوقت…
البديل هو أن يعترف كل بمسؤوليته وإن كان في أدنى مراتب المسؤولية، وبعدها ينطلق النقاش.. أما وأن يبقى الوضع على حاله، كل يبحث عن الانتصار لنفسه وهزيمة الآخر، فلن نصل إلى حل.. بل سيكون هذا هو بوابة الدخول إلى حالة العنف التي يترقبها الكثير، والمجال الرحب الذي تتحرك ضمنه قوى خارجية لا تريد لنا الخير في كل الحالات.
لعل اليوم هو الوقت المناسب، لكي يعترف الجميع بأن الأزمة، الفقر، التبعية، هدر المال العام، الفساد، تدهور القيم هي مسؤولية الجميع، بدرجات متفاوتة طبعا، ثم بعدها يُفتح المجال لنقاش واسع على أساس أن الحل يشارك فيه الجميع.
أما إذا ما استمر الانطلاق من كون فريق على حق وفريق على باطل، فلا أفق سوى الأفق المسدود لا قدر الله.