-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

كم سنربح لو أدمجنا الدكاترة الأجراء؟

كم سنربح لو أدمجنا الدكاترة الأجراء؟

تختلف نظرة المشرّعين في تقييم الأمور واستصدار القرارات وترسيم القوانين والأحكام باختلاف نظرتهم للمسألة موضوع التشريع، فهم قد يهتمون أو يركزون على جوانب وجيهة ومهمة لاعتبارات كثيرة، وينسون أو تغيب عنهم الكثير من الفوائد والعوائد ذات الصلة بمردودية الحكم أو القرار المرُاد ترسيمه وتطبيقه لاعتبارات أخرى. 
من ذلك مسألة دمج أو إقصاء الدكاترة الأجراء من سلم الوظيف العمومي الجامعي. وهي مسألة في ظني واعتقادي يجب أن تعالَج من منظور آخر لم يره المشرّعون أو لم يلتفتوا إليه البتة لكونه يتعارض مع حساباتهم الرقمية المتعلقة بالميزانية وعدد المناصب.. ونحوها من تلك الحسابات الرقمية البحتة، في وقت تشهد الجامعة الجزائرية نزيفا كبيرا في تقاعد الأساتذة الذين بلغوا سن السبعين، وما يحملونه من تجربة وخبرة وقيمة ومعرفة وتاريخ ورصيد جامعي معتبر جدا ولا يمكن تعويضه، فيما تشهد وفودُ حمَلة شهادات دكتوراه “أل أم دي” (LMD) الصغار في السن والتجربة والتحصيل والقراءة والجدارة العلمية والتربوية والتكوينية.. وهو واقعٌ غير طبيعي لاستمرار الجامعة الجزائرية قوية وناهضة.
واعتقادي وتحليلي أن أصحاب القرار ومستشاريهم في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي تحكمهم النظرة الاقتصادية والمالية وترشيد النفقات الحكومية في مسألة اتخاذ القرارات المصيرية المتعلقة بفئة معينة ومتميزة من الأمة الجزائرية تُدعى النخبة الجامعية، وأنهم لا يحيطون إحاطة شمولية أثناء إعدادهم لأيّ مشروع قرار يتقدمون به للموافقة عليه للتطبيق والتنفيذ، إذ يتبين للملاحظين والمهتمين من كونه لا يراعي الرؤية الشمولية المتكاملة لجميع أبعاده وامتداداته التشخيصية والواقعية، ولذلك شهدنا خلال العقود الأربعة الماضية تغييرا جذريا في شبكة القوانين والمراسيم الجامعية.. وأنهم -حسب قراءاتي وتحليلاتي المتتالية للشبكة القانونية- لا يعطون الوقت والشرح والتوضيح الكافي للمجلسين الشعبيين المكلفين (البرلمان، مجلس الأمة) لإنضاج واستكمال النقص في القرارات المتخذة في حقل التعليم العالي، أو ربما لخلل طارئ أو حاصل من  البرلمانيين المكلَّفين بمناقشة وتقييم قطاع التعليم العالي والعلمي والثقافي والقانوني ولبعدهم عن مجال التعليم العالي الذي في اعتقادهم أنه كسائر قطاعات الوظيف العمومي بلا خصوصيات وميزات.
وعليه، فليسمح لنا إخوتنا في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي -من باب النصح والإفادة ولفت النظر- المكلفين بإدارة المشهد القانوني والتشريعي الجامعي أن نفتح لهم نافذةً غابت -في اعتقادنا- عنهم وذلك لكثرة انشغالاتهم وسرعة إعداد المشاريع قبل إنضاجها الفعلي بالقدر الكافي، وعليه أيضا فإن استبعاد الدكاترة الأجراء من التوظيف الرسمي في الجامعات قرار -في ظني واعتقادي وتجربتي وبحثي ومعرفتي- يدل على نقص في فهومات وتصورات ورؤى المشرِّع القانوني حيال هذه الفئة النخبوية المتميزة. لأن هذا المُشِّرع نظر من زاوية واحدة فقط، وهي محاولة تخفيف الأعباء عن كاهل الدولة الجزائرية المُرهَقة بالإنفاق الحكومي في مجالات متعددة.
والآن أبسط لكم المسألة وصفا وتشخيصا وتفسيرا وتحليلا بعد أن نعرف كنه (الدكاترة الأجراء)، وهم الذين حازوا على شهادة الماجستير والدكتوراه ويشغلون منصبا قارا ورسميا في الوظيف العمومي. هذا هو التعريف بالتوصيف القانوني، وهو النعت والصفة الذي تتعاطى معه الدوائرُ الرسمية الجزائرية في مقرراتها الرسمية. وهو وضعٌ قانوني في حقيقته غير منصف، لاعتبارات كثيرة، لعل أهمها:

1– ظلم التصنيف القانوني:
عدم اعتبار مستوى ودرجة الماجستير والدكتوراه وما يقابلهما من قيمة ووزن ورصيد معرفي وعلمي وفكري وثقافي وأدبي ولغوي وديني معتبر، إذ يساوي القانون بين سائر الموظفين الأجراء الحاملين للماجستير والدكتوراه أو غير الحاملين ممن وُظفوا بمستوى السنة الرابعة متوسط أو الثالثة ثانوي أو الليسانس أو الماستر الحديثة.. وللأسف الشديد ثمة موظفون يعملون حراسا وأعوان أمن وطباخين في المطاعم المدرسية وثمة كتّاب وإداريون وموظفون وأساتذة تعليم في مختلف المراحل ومفتشون وخبراء تربويون وموظفون في بنوك ومصارف وفي مراكز الضمان الاجتماعي.. والكل يتساوون من الناحية القانونية وينالون الحقوق نفسها من دون مراعاة للشهادات العليا التي يحملونها، وقد وجد هذا الصنف المظلوم نفسه -لظروف قاهرة مرت بها البلاد في شأن البطالة والتوظيف- أنهم يعملون في قطاعات لا ترى في مستوى الماجستير والدكتوراه أيَّ قيمة أو مكانة أو وزن.. وهذا ظلمٌ من عدة وجوه، يحتاج كل وجهٍ منها إلى بسط وتحليل لوحده.

2– غياب التقييم القانوي:
ولعل أخطر مما سبق توصيفه، والذي يمكن أن تردّ فيه الوصاية قائلة: إنها تتعامل مع مواطنين جزائريين متساوين أمام القانون، وهذا توصيفٌ شكلي ظاهري في بنائه غير منصف في روحه وحقيقته ومضمونه لهذه الفئة النخبوية المتميزة التي أقطعت جزءا مهما من عمرها ووقتها وسعادتها وراحتها ومالها وماضيها وحاضرها والتفكّر السعيد والجميل في مستقبلها بعد الحصول على الشهادة.. من أجل طلب العُلا والرفعة والشهادة التي يُفترض أنها قيمةٌ بلا ثمن في البلدان التي تثمّن العلم والعالم، ولأنه اسمه العلم المشتق من اسم الله الخالق العالم والعارف والذي لا ثمن يعادله أو يساويه… ولكنها قوانين بشرية لم تنصفهم وتمنحهم حقوقهم.

3– عدم تثمين المقامات:
ولعلني –وأنا العارف بنوعية هذه الأصناف المحترمة التي ينعتها قانونكم بالدكاترة الأجراء- أن أنقل وصفا حقيقيا وواقعيا لنوعية وصنف وأصالة ومكانة هؤلاء الخريجين الجامعيين المتميزين، الذين أبى قانونكم إدماجهم كموظفين رسميين في الجامعة، وماذا خسرتم كجامعة وكأمة برميهم في مهملات وحواشي وأطراف المجتمع.

تشهد الجامعة الجزائرية نزيفا كبيرا في تقاعد الأساتذة الذين بلغوا سن السبعين، وما يحملونه من تجربة وخبرة وقيمة ومعرفة وتاريخ ورصيد جامعي معتبر جدا ولا يمكن تعويضه، فيما تشهد وفودُ حمَلة شهادات دكتوراه “أل أم دي” (LMD) الصغار في السن والتجربة والتحصيل والقراءة والجدارة العلمية والتربوية والتكوينية.. وهو واقعٌ غير طبيعي لاستمرار الجامعة الجزائرية قوية وناهضة.

لي أصدقاء وزملاء كثّر من هذا الصنف في مختلف التخصصات الأدبية والدينية والفلسفية.. لم يسعفهم الحظ في الوظيف الجامعي خلال الحقبة السالفة التي طبعتها وصبغتها الأمراض التي تعرفونها من: جهوية وعصبية ومحسوبية وزبونية وشللية.. أضرت بالتوظيف الجامعي ورفع مقام الجامعة بدمج هذه المقامات العلمية فيها قانونيا، كما درس عندي خلال الثلاثين سنة الماضية نوعياتٌ منهم، كلها هيبة واحترام ومقام كريم، منطقا وحديثا وفهما وحوارا وعلما ومعرفة وعقلا.. وكم كان لهم من وزن وتأثير على زملائهم الصغار، وأشهد أن هذه النوعيات لعبت دورا تأديبيا وأخلاقيا وتوعويا وتربويا وثقافيا مع سائر الطلبة الصغار في السن. كما شكَّلت هذه النوعية بؤر مجدٍ لماضي الجامعة الجزائرية الكلاسيكية التقليدية قبل صاعقة نظام  LMDالقاصر، وكان جلُّهم من القراء والمطالعين من ذوي الثقافة التقليدية في تحصيل المعرفة ومن سكنة المكتبات، على العكس من جيل نظام (LMD) والهواتف المحمولة والمنصات والتعليم عن بُعد الفارغ، فعندما يجتمع من هذا الصنف عددٌ في كل فوج ترى أنك أصبحت في الجامعة التي كان يدرِّس فيها كبار الأساتذة والعلماء، وإذا فرغ هذا الصنف من فوج ترى نفسك أنك في ثانوية أو ربما متوسطة.. فلماذا تعلَّم هؤلاء؟ ولماذا كابدوا وكافحوا؟ ولماذا خسروا زهرة أعمارهم في سبيل نيل الشهادات العالية ثم يأتي قانونٌ جديد ليمحو بجرة قلم التقييمَ والتقدير والتعيير وينسف هذه الجهود؟

4– عدم تثمين الخبرات:
والعارف بقيمة ومكانة هذه الفئة المحترمة والمثقفة من الطلبة والباحثين من الحاصلين على شهادتي الماجستير والدكتوراه الذين يسميها قانونكم تلك التسمية المهينة (الدكاترة الأجراء)، يرى أن جيلي مرّ بكافة مراحل العمل التربوي والتعليمي والتكويني وحصل خبرات متميزة ومثالية في القطاعات التي عمل فيها سنوات قبل أن يلتحق بالوظيف الجامعي قبل صدور هذا القانون الذي لا يثمِّن العلم.
ولعلم القائمين على هذا القانون أن جيلنا والذين مازالوا ينتظرون الالتحاق بالإدماج الجامعي قد أضافوا الكثير والكثير للجامعة الجزائرية. وسأسرد مشاهد وقيما وإضافات علمية وتربوية وتعليمية وتكوينية لنماذج من الزملاء الذين درجوا معنا في فضاء الجامعة وكان لهم سابق تجربة في سلم التربية والتعليم قبل أن يلتحقوا بالجامعة، من أنهم اصطحبوا معهم تجربتهم وخبرتهم وأخلاقهم واتّزانهم ومقاماتهم، فمنهم من كان مفتِّشا ويوم التحق تشاهده يحضّر أسئلته وكأنه ما زال في حقل التفتيش وهو مقدم على فتح أظرفة أسئلة البكالورية أمام وسائل الإعلام وبحضور السلطات المحلية، ومنهم من يُعدّ محاضراته وكأنه يُعدّ مذكرة للتعليم الابتدائي ملونة ومسطرة ومزينة ومفصلة، ومنهم من تراه ينأى عن الصراعات والشحناء والكولسة واللوبيات.. ومنهم من إذا تكلّم في الاجتماعات أو اللجان نطق بالحق والصواب.. ومنهم إذا طُلب منه عملٌ أو دراسة أو مشروع قام به خير قيام.. فضلا عن تحلّيهم بالهندام الرسمي وبالبذلة وربطة العنق، فلا يدخلون قاعة درس أو مدرَّج إلاّ وهم أنيقو المنظر.. ولا تجد فيهم من يلبس قميصا أو شبشبا ويدخل الجامعة كما يفعل هُـــمّل السلفية الذين وظفتم منهم الكثير عادّين ذلك من الإسلام الصحيح.. وسترون ما يجلبونه للجامعة الجزائرية من سموم وضلال وانحراف السلفية المنحرفة عن منهج الإسلام.
ولو كتبتُ في تعداد محاسن هذه النخبة المتميزة لما فرغت، وكم من راحل أبّنتُه بقلمي لخصاله الحميدة التي عشتها معه مدة ثلاثين سنة.. فلا تحرموا الجامعة من خبراتهم.. فكم ستخسر الجزائر والجامعة والأمة من الاستهانة وتضييع هذه الفئة العزيزة المحترمة، إلّا تفعلوه تكن في الأرض فتنةٌ وفساد كبير أكثر مما هو كائن. أللهم اشهد أني بلّغت.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!