-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

كورونا بين المحنة والمنحة

محمد جاب الله
  • 1420
  • 0
كورونا بين المحنة والمنحة
ح.م

يعيش العالم هذه الأيام على وقع تفشي وباء فيروس كورونا الذي تحوَّل إلى جائحة أصابت أغلب دول العالم من دون تفريق بين فقيرها وغنيِّها ومهما كانت درجة تطورها العلمي أو الاقتصادي. وباء لا لقاحَ ضده ولا علاج له لأنه لم يسبق أن أصاب الإنسان قبل اليوم.

منذ ظهور الإصابات الأولى بذلك الفيروس في ديسمبر الماضي في مدينة يوهان الصينية، تبين أنه سريع الانتشار وأنه لا علاج له إلا بالسعي الجاد لعدم التعرض للعدوى به، وكذلك بمدى قدرة تكفل الدول بالمصابين. كما تبين أن نسبة الوفيات بسببه لا تفوق كثيرا الوفيات بغيره إذا تم التكفل العاجل والمناسب بالحالات الحرجة. ولكن الفرق يكمن في كونه يتسبب في مضاعفات خطيرة وبالأخص للجهاز التنفسي تتطلب إدخال المصاب إلى العناية المركزة عدة أيام. وهنا يكمن التفاوت بين الدول والمنظومات الصحية المختلفة بالقدرة على مواجهة مخاطر هذا الوباء والحدِّ من انتشاره بمدى توفر الأجهزة اللازمة والطّواقم الطبية الكافية وكذلك بمدى الوعي عند المواطنين وثقتهم في المنظومة الصحية لبلدانهم بكل مكوناتها الطبية والإدارية.

يقال من المحن تأتي المنح، وهاهي محنة كورونا تعلّمنا بما لا يدع مجالا للشك أننا لا نستطيع إذا استفحل الأمر لا قدر الله واشتد أن لا نعول إلا على الله ثم على أنفسنا. فها هي تلك المحنة تجعلنا جميعا متساوين أمام الخطر وإمكانية تجنُّبه أو التعافي من أثاره، كما تبرز لنا جليا مدى نجاعة المنظومة الصحية التي بنيناها منذ الاستقلال وقدرتها على ضمان أمننا الصحي وتظهرها على حقيقتها للمسؤولين عليها وعلى تسيير البلاد، الذين ربما لا يعرفونها جيدا لأن الجميع يعلم أنهم كانوا وفي كل المستويات يلجأون إلى التداوي في الخارج ولأبسط الأسباب أحيانا. وهاهو الخارج يغلق أبوابه أمام الجميع، وأصبحت حتى الدول المتقدمة والتي تتوفر فيها كل الوسائل تنغلق على نفسها خوفا من العدوى وأيضا توفيرا لإمكاناتها لفائدة مواطنيها.

من موقعي كطبيب، وحسب ما أصبح معلوما عن هذا المرض الطارئ حاليا، وما تتطلبه الإصابات الخطيرة من عناية، أستطيع القول إن منظومتنا الصحية لن تكون قادرة على مجابهة مضاعفات المرض إذا انتشر بكثرة. ومع أن تجربة الدول التي أصيبت بذلك الوباء قبلنا تظهر أن نسبة الذين يكونون في حاجة إلى العناية المركزة لا تتجاوز خمسة في المائة، إلاّ أنها تكون نسبة كبيرة إذا أصبح عدد المصابين يعد بالمئات أو بالآلاف. وعليه يجب على كل فرد في المجتمع وخاصة من يُعدّون من صناع الرأي في هذه الأوقات الحرجة أن يوصوا بالتزام تعليمات الوقاية الصادرة من السلطات الصحية للبلاد مهما كان تقييمنا لأدائها، لأننا لا زلنا نرى ونسمع بعض من يشككون في جديتها ويستهترون بالمرض ويخرجون جماعات رافعين شعارات مقززة كقولهم “شعب.. كورونا.. خاوة خاوة”، أو ينددون بالغلق الطارئ للمساجد وغيرها ويقارنونها بالمستشفيات والثكنات. ولقد ثبت في الدول المتطورة والمتقدِّمة علميا أن لا سبيل للنجاة من تلك الجائحة إلا الفصل بين الناس والتقليل من المخالطة والتنقل ما أمكن وعزل المصابين.

قد يكون ذلك التشكيك والاستخفاف بالتعليمات ناتجا عن رواسب سنوات من التسيير الإداري والتسيُّب الواضح في المجال الصحي تولدت عنه أزمة ثقة لدى المواطن الذي أصبح يسعى أن يتطبَّب في الخارج ولو بالتسوّل أو الاستدانة، فإن كان يجد مبرراته في الماضي فإنه لم يعد مبررا في السنوات الأخيرة إلا لحالات محددة نتمنى أن يتم تداركها في أقرب الآجال.

لقد عاينت وعانيت أثناء تجربة ميدانية عمرها خمسين سنة من أسباب تدهور واهتزاز الثقة في منظومتنا الصحية، لا يتسع المجال لسردها الآن. ولكنني الآن كلي أمل أن تكون هذه الجائحة فرصة للجميع، شعبا وطواقم طبية ومسؤولين، كل في موقعه، لتجنّب أخطاء الماضي ومعالجة النقائص وتدارك ما فاتنا في الميدان ونحن نمتلك كل الإمكانيات المادية والبشرية لذلك، إذا توفرت الإرادة وتضافرت الجهود.

كورونا ككل الأوبئة التي سبقتها زائلة لا محالة، ونسأل الله أن تكون خسائرها الأرواح والأرزاق خفيفة، ولكن نتمنى أن تكون لنا كالمنبه الذي نكتشف فيه ذاتنا وقدراتنا ونعي كلنا أنه لا عون لنا بعد الله في النوائب إلا وحدتنا وقدراتنا العلمية والمادية التي نمتلك بحق ناصيتها، حينها نردد جميعا وبفخر قول الشاعر: “جزى الله الشدائد كل خير *** عرفت فيها عدوي من صديقي
وتكون بحق المحنة منحة.

نسأل الله أن يجنب بلادنا المحن والفتن ما ظهر منها وما بطن. ولله الأمر من قبل ومن بعد.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!