كيف نبقى ضمن عالم الكبار؟
المشكلة في الدول التي تعرف اضطرابات أو التي ستعرفها في المستقبل، ليست الإمكانيات البشرية والقدرات المادية أو المحيط الدولي كما يبدو لنا، إنما طبيعة العلاقات بين مكوّنات نظامها السياسي والاقتصادي والثقافي. إذا كانت هذه العلاقات سليمة ذات طبيعة تفاعلية فإنها ستنتج نظاما ديناميكيا قابلا للتطور وقادرا على الاستمرار دون انكسارات كبيرة، أما إذا كانت هذه العلاقات معقدة غير مترابطة فيما بينها فإنها ستدفع باتجاه نظام ساكن، يبدو مستقرا، ولكنه ضعيف “الأنتروبيا”، غير قادر على التكيّف مع المستجدات، مؤهل للانفجار من الداخل في شكل صراع عنيف حول السلطة أو في شكل احتجاج اجتماعي ما يلبث أن يتحول إلى عنف ذي ارتباطات وامتدادات خارجية. ما الذي يحدث عندنا؟ وكيف يمكننا البقاء في عالم يسيطر عليه الكبار من غير اضطراب؟
المتتبّع للوضع الدولي يتبين أن احتكار السلطة ما فتئ يتزامن مع احتكار المال والمعرفة. على الصعيد الاقتصادي توجد شركاتٌ عملاقة هي أكبر من الدول عشرات المرات إن لم تكن مئات المرات بما في ذلك الدول التي نقول عنها متوسطة الدخل مثل الجزائر. وعلى الصعيد المالي مافتئت الهوّة بين الفقراء والأغنياء تزداد، وعلى الصعيد المعرفي حدّث ولا حرج؛ المعرفة أصبحت من احتكار مخابر الدول الكبرى والابتكار أصبح من اختصاصها، ولم يبق لنا سوى أن نكون في موقع المتفرّج أو المتتبّع المندهِش من هذا التطوّر الهائل.
في ظلّ هذا الوضع تعرف بلدانُنا وضعا ضاغطا باتجاه السير بخطى متسارعة نحو الانفجارات الداخلية، أي نحو العنف. عرفت هذا المصير كل البلاد العربية في الماضي بشكل متقطع وهي تعرفه الآن بشكل ممنهج (systématique ) لا يوجد أبشع وأفظع منه كما يحدث في ليبيا وسورية واليمن والعراق ومصر. إلا أننا، بدل أن نبحث في عمق المشكلة بداخلنا، كثيرا ما نسارع إلى توجيه أصبع الاتهام نحو العامل الخارجي، ومنّا من يجزم قاطعا أن ما نعرفه من اضطرابات إنما هو بسبب السياسات الدولية تجاه بلداننا وبسببها فقط. بالرغم من كون التحليل الموضوعي يُلزمنا بطرح السؤال المركزي الأساسي الذي يقول: لماذا يُفلح الخارج بسهولة في دفعنا نحو العنف؟ وما الذي يسمح له بذلك؟
في هذا المستوى ينبغي أن نعود إلى الداخل لنعرف الجواب، ذلك أن المشكلة بالأساس داخلية وليست خارجية؛ المشكلة تتمثل في طبيعة العلاقات السائدة بين مكوّنات النظام الذي يحكمنا ودرجة التفاعل بينها وبين بقية المحيط الذي يُفترض أن تتفاعل معه.
غالبية الدول التي عرفت اضطراباتٍ إلى حد الآن كانت دولاً مغلَقة، بما يعني أن العلاقات كانت محدودة بين مكوّناتها (متغيرات النظام وفواعله).. لم يكن لديها شبكة اتصال ولا آليات فعالة لتبادل المعلومة والرأي حول كيفية التعامل مع الواقع في الحاضر والمستقبل. كل ما كان لديها هو اتصال بين مجموعة مغلقة، هي التي تقرر وهي التي تختار الاستراتيجيات التي تتبعها في كافة المجالات، وأحيانا يُهيمن على هذه المجموعة فردٌ واحد أو يحدث بداخلها استقطابٌ بين فردين يتحكّمان في التوازن بداخلها يصبح هو توازن النظام.
أما باقي الهيئات والمؤسسات ومكوّنات المجتمع فتُصبح مجرّد هيئات وهياكل فارغة مستقبِلة غير قادرة حتى على ردة الفعل، يتم تكبيلها بمصالح ضيّقة أو قوانين تمنعها من أن تتحول إلى الحالة الديناميكية القادرة على دفع النظام باتجاه التقدّم. وهكذا تتكرس هيمنة الشخص أو المجموعة الضيّقة على القرار، ويضعف التشبيك بين مكوّنات المجتمع، وتتحول العلاقات من الديناميكية والتفاعل إلى أسهم ذات اتجاه واحد من الأعلى إلى الأسفل تتحرك وفق ما تقتضيه المصلحة وبقدر الثمن الذي يدفعه لها من يكون في المرتبة الأعلى، وهكذا تضعف تدريجيا أنتروبية entropie النظام فيصبح في مرحلة معينة غير قادر على الانتظام، ثم تنعدم هذه الانتروبية فيحدث الاضطراب لديه ثم يتلاشى.
هو للأسف ما يحدث الآن في أكثر من بلد عربي، ولا نريده أن يحدث في بلادنا، نحن نريد الوصول إلى حالة من التكافل السياسي العام symbiose générale قائمة على الدعم المتبادل بين مكوّنات المجتمع تسمح لنا بالرفع من قدرات التنظيم الذاتي الذي نملك، وتخلق لدينا القدرة على تطوير نظام ديناميكي يقوم على شبكة علاقات اجتماعية عالية التفاعل فيما بين مكوّناتها، يُحرِّكها الذكاء الجماعي القادر وحده على دفعنا نحو الاستباق والاستحداث أي الاستشراف، الذي من خلاله فقط نتجنب الوقوع في ذلك النوع من المشكلات الشريرة التي تخلق حلولها مشكلات أكبر منها. (السلطة والإخوان في مصر، القضاء على نظام القذافي في ليبيا، غزو العراق، محاولة الإطاحة بالأسد في وسورية، الإطاحة بعلي عبد الله صالح في اليمن). كلها كانت مشكلات شريرة أنتجتها أنظمة لا تعرف الديناميكية ولا الانتظام الذاتي أو العلاقات المتفاعلة المنشئة للتطور.
المجتمع الجزائري، يعرف مؤشراتٍ حاملة لمستقبل كهذه البلدان يمكنها أن تؤدي به إلى فقدان الانتظام، المقدمة الأولى للتلاشي، هذه المؤشرات ينبغي استباقها من الآن من خلال إعادة تشكيل شبكة العلاقات الاجتماعية، وتحييد محتكري السلطة مهما كان نوعها: مالية سياسية ثقافية أمنية… الخ كمقدّمة للشروع في إعادة بناء دولة يمكنها أن تصمد في ظل عالم لا يمكن أن يعيش فيه سوى الأقدر على البقاء.