الرأي

كَـلَــبٌ فرنسي

الأمراض ألوان والأدواء أنواع، منها أمراض عادية ومنها أمراض خطرة خبيثة، ومنها اللاّزمة التي لا تتعدى المصاب بها ومنها المتعدية أو المعدية، ومن الأمراض مرض يسمى “الكَلَبُ” -بفتح الكاف واللاّم- وهو مرض خبيث يصيب الحيوانات خاصة الكلاب والثعالب والذئاب وما يشابهها من كائنات.

أصل هذا الداء الخبيث هو فيروس يصيب الجهاز العصبي للإنسان الذي ينتقل إليه من الحيوان المصاب به، وأعراض هذا الداء عند الإنسان الذي أصيب به هي ارتفاع درجة الحرارة، الصّداع، القيء، والهيجان، ثم يحدث له تشنّج يعقبه الموت، لأنه لا أمل في شفاء من استفحلت فيه أعراض هذا الداء (1)، وفي لساننا الدارج يسمى المصاب بهذا الداء “مَكلوب” أو “مسعور”، كما يطلق هذا الوصف “مكلوب” أو “مسعور” على من جاوز الحد في الحمق، والسّفه، والجشع، والطمع، والتّسفّل الأخلاقي، ويمكن أن نسمي هذا “الكلب المعنوي” تمييزا له عن الكلب المادي، وهذا ما جعلني أنسب “الكلب” إلى فرنسا، فهو “كَلَبٌ” خاصٌّ بها، لأنه لم يقض عليها ماديا، فهي ماتزال كما وصفها الإمام الإبراهيمي “صُغرى الدول الكبرى وكبرى الدول الصغرى”؛ ولكنها من الناحية المعنوية والأخلاقية هي دولة ميتة، أو قل هي كأهل جهنم الذين جاء في حالهم في القرآن الكريم قول ربنا تعالى جدُّهُ: “لا يُقضى عليهم فيموتوا، ولا يُخفّف عنهم من عذابها” (سورة فاطر. آية 36).

إن دليل إصابة فرنسا بداء “الكَلَب” المعنوي هو ما ينتاب كثيرا من الفرنسيين كلما حلّت ذكرى من الذكريات التي تذكرها بالجزائر، وقد سمعنا في المدة الأخيرة بمناسبة الذكرى الخمسين لطرد فرنسا من الجزائر كثيرا من تصريحات كبار مسؤوليها ابتداء من ساركوزي إلى هاماناته مثل وزير الخارجية، والداخلية، وكاتب الدولة لقدماء المحاربين، حيث بلغت عندهم درجة الإصابة بداء “الكلب”  المعنوي مستوى خطرا يُخشى على الدول المجاورة لفرنسا أن تصاب به، خاصة تلك الدول التي كانت لها مستعمرات مثل ايطاليا، وبلجيكا، وانجلتر، وهولندا، وإسبانيا التي ماتزال تحتل أجزاء غالية من وطننا المغربي، وإنّا لطاردوها منها مهما يطل الزمان.

لقد صرح المسمى “مارك لافينور” كاتب الدولة لقدماء “المجرمين”، ولا أقول المحاربين، لأن للمحاربين أخلاقا نبيلة لم يسمع بها جنود فرنسا في الجزائر من دوبورمون إلى دوغول فضلا عن أن يتخلقوا بها؛ قلت صرح هذا “المارك” أن التاسع عشر من شهر مارس “يمثل بداية مأساة للمهجّرين الذين اضطروا إلى التخلي عن جذورهم (!؟) كما أنها – ذكرى 19 مارس – مأساة بالنسبة للحركى – الخونة – الذين كانوا ضحية مجازر خلال الأسابيع”، وأن هذه المجازر (!؟) خرق لاتفاقية إيفيان.. (أنظر جريدة الخبر في 17 / 3 / 2012. ص3).

إن “وقاحة” هذا “المارك” لا نظير لها في الوقاحات، فهو يغالط الناس فيجعل هروب المجرمين الفرنسيين من الجزائر “تهجيرا”، وما هو إلا فرار من طرفهم، لأنهم ارتكبوا في الجزائر من الجرائم “ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولاخطر على قلب بشر”، (وأعتذر من سيدي وحبيبي رسوله الله – صلى الله عليه وسلم، إذ استعملت حديثه الشريف في الرد على هذا الكلام الوضيع السخيف).

وأية وقاحة أكبر من التنديد بـ”جرائم أسابيع” في حق مجرمين ولصوص وخونة – إن وقعت – والسكوت عن جرائم قرن واثنتين وثلاثين سنة في حق شعب كامل، وهي جرائم ماتزال مستمرة إلى يوم الناس هذا عن طريق الألغام المزروعة في طول الجزائر وعرضها، وعن طريق الإشعاعات النووية الناتجة عن التفجيرات الذرية، في الوقت الذي يعترف المجرم الأكبر – دوغول – قائلا: “حظرنا على القوى الأمريكية إدخال قنابل ذرية إلى فرنسا، سواء كانت مستقرة في الأرض أم محمولة بالطائرات… (2)”.

إن “جرائم” المجاهدين – إن كانت هناك جرائم – طيلة سبع سنوات ونصف لا تساوي جرائم جندي من مجرمي فرنسا.

ويتحدث هذا “المارك” عن “خرق” الجزائريين لاتفاقية إيفيان.. إن وقع ويعمى عن خرق فرنسا لعشرات الاتفاقيات بين الجزائر وبينها وآخرها اتفاقية 5 / 7 / 1830، التي وقعت باسم “شرف” فرنسا، و”شرف” ملكها، و”شرف” جيشها…

إنني أرجع هذا “الكلب” الفرنسي إلى عدة أسباب هي:

) عدم استسلام الجزائريين لفرنسا طيلة وجودها في الجزائر، فكلما أخمدت فرنسا نار جهاد أوقدوا نارا أخرى حتى طهروا أرضهم من الرجس الفرنسي.

) إن الجزائريين استعادوا حقهم عنوة، واسترجعوا حريّتهم غلابا، ونقلوا جهادهم إلى أرض العدو، ما جعل دوغول يقول: “إنه لا يريد أن يرى مسكنه يصير Colombey-les deux Mosquées” (3). (أي كولومبي ذات المسجدين). ففرنسا تستطيع أن تمنّ على من تشاء من الشعوب إلا على الشعبين الفيتنامي والجزائري.

) إن الجزائريين كانوا بجهادهم سببا في تقويض الامبراطورية الاستعمارية الفرنسية، حيث أعطى دوغول “الاستقلال” لثلاث عشرة دولة في وقت واحد (4)، لكي يجمع القوات الفرنسية في الجزائر لإخماد جهادها، وقد انطق الله – عز وجل – المجرم راؤول صالان فسمى مذكراته “نهاية امبراطورية” (fin d’un Empire) بعد ما اعتبر جابريال إسكير “احتلال الجزائر بداية امبراطورية” (la prise d’Alger les commencements d’un emprire:)، وقد صدق آلان جيرار عندما وصف طرد الجزائريين لفرنسا بـ”الصدمة الوطنية الأكثر صعوبة” (5).

) إن الصراع الذي جرى بين الجزائريين والفرنسيين كان في حقيقته صراعا بين عقيدتين، فالجزائر هي “أرض الجهاد”، وباب عاصمتها الشمالي يسمى “باب الجهاد”، ومقاتلوها من الأمير عبد القادر إلى فاطمة نسومر، إلى الحاج باجودة في عين صالح، إلى الشيخ آمود في الهڤار، إلى مصطفى بن بولعيد كلهم “مجاهدون”، وفرنسا هي البنت البكر للكنيسة، بل هي “روح المسيحية” كما قال دوغول لصديقه ووزيره أندري مالرو (6)، ولهذا كان “اللص الأكبر” () لافيجري – يقول: “إن فقدان الجزائر يعني أكثر من عشر هزائم”، وكان الصليبي جورج بيدو – رئيس حكومة فرنسا ووزير خارجيتها – يصيح في هستيريا “إن الصليب سيحطم الهلال”، وذلك عندما أزفت آزفة فرنسا في المغرب الإسلامي…

إنني اعترف أن فرنسا قد حققت عدة مكاسب في الجزائر بعد طردها منها، ويبوء بإثم ذلك المجاهدون الذين راحوا يتقاتلون على حظوظ النفس وتركوا أصحاب الجنسية المزدوجة يتسللون إلى مفاصل الدولة الجزائرية فيهينون عزتها، ويذلون كبرياءها، حتى إن أحدهم ترشح لرئاسة اليونيسكو تحت الجنسية الكامبودية (!!!)، رحم الله شهداء الجزائر، وأذلّ من أذلّها، وأهان من أهانها.

هوامش

1) الموسوعة العربية الميسرة: مادة داء الكَلَب.

2) دوغول: مذكرات الأمل. ص 226.

3) شارل هنري فارفرود: الثورة الجزائرية. منشورات دحلب. ص9.

4) دوغول: مذكرات.. ص 75.

5) le point. N! 899. le 11/12/1992

6) أندري مالرو: سقوط السنديان. ص 136.

) سمى الفرنسيون لافيجري “المعمر الأول”..

مقالات ذات صلة