-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

لا‮ ‬مأمونون

لا‮ ‬مأمونون

كان‮ ‬الإمام‮ ‬أحمد‮ ‬بن‮ ‬حنبل‮ – ‬رضي‮ ‬الله‮ ‬عنه‮- ‬إذا‮ ‬سئل‮ ‬عن‮ ‬الخليفة‮ ‬العباسي‮ ‬المأمون‮ ‬بن‮ ‬هارون‮ ‬الرشيد‮ ‬يجيب‮: “‬إنه‮ ‬لا‮ ‬مأمون‮”.‬

لقد ابتُلي الإمام أحمد بن حنبل بلاء شديدا، وامتُحن امتحانا عسيرا فيما عرف في تاريخ المسلمين بمسألة “خلق القرآن”، حيث تحيّز المأمون إلى صف القائلين بخلق القرآن، وأراد أن يجبر الناس على القول بذلك.
كان‮ ‬الإمام‮ ‬أحمد‮ ‬بن‮ ‬حنبل‮ ‬على‮ ‬رأس‮ ‬الرافضين‮ ‬لهذه‮ ‬المقولة،ر‮ ‬وجادل‮ ‬أصحابها،‮ ‬فلما‮ ‬أفحمهم،‮ ‬ودحض‮ ‬حجتهم،‮ ‬وأبطل‮ ‬أقوالهم‮ ‬لجأوا‮ ‬إلى‮ ‬ما‮ ‬ريلجأ‮ ‬إليه‮ ‬كلّ‭ ‬من‮ ‬يخسر‮ ‬معركة‮ ‬فكرية،‮ ‬وجدلا‮ ‬علميا،‮ ‬وهو‮ ‬استعمال‮ ‬القوة‮.‬
تمثلت قوة خصوم الإمام أحمد في الخليفة العباسي المأمون (786 – 833م) حيث استطاعوا أن يقنعوه بما اقتنعوا به، وأن يستعملوه في البطش بخصومهم، الذين كان رمزهم الإمام أحمد، الذي ألقي في غياهب السجن، وسُلّط عليه من العذاب ما لا طاقة لبشر به، فربط الله على قلبه، وثبّته بالقول الثابت، فلم ينالوا منه ما يريدون، وذهب زبد أولئك جفاء، ومكث ما ينفع المؤمنين، لأنه حق، وقد أخبرنا العليم الخبير أن الحق والباطل في صراع دائم، وأن عاقبة كل صراع هي للحق ولو ظهر الباطل حينا بعد حين.
إن المأمون بالرغم من تورّطه – أو توريطه – في تلك القضية التي أوغرت صدور المسلمين بعضهم على بعض، وظُلم فيها كثير من المسلمين؛ بالرغم من ذلك فقد كان ذا عقل كبير، وأعمال جليلة قدّمها للحضارة الإسلامية، منها إنشاؤه “بيت الحكمة” في بغداد وهو أشبه ما يكون بالمجامع العلمية في التاريخ الحديث والمعاصر، حيث يجتمع أرباب الحجى، وكبار العلماء ليناقشوا الأفكار، ويتذاكروا العلم. وقد أولى المأمون عناية كبيرة لقضية الترجمة من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية، فترجمت عدة مؤلفات في شتى فروع المعرفة.
إن هذا الوصف “لا مأمون” ينطبق على كثير من حكام المسلمين في هذا العصر، فمنهم من لا يتورّع عن مد يده إلى مال الأمة، يتصرف فيه على هواه، يبذره في إشباع شهواته، يوزعه على الآل والأصحاب و.. يهرّبه إلى البنوك الأجنبية، يشتري ذمم الناس ومنهم من يدوس قيم بلاده النبيلة وعادات شعبه الأصيلة ليسترضي هذه الدولة أو تلك المنظمة، وليقال عنه إنه “متفتح الفكر، سديد الرأي، بعيد النظر”، وقد يفعل ذلك طمعا في شهرة زائفة، ووسام نحاسيّ يعلقه في بيته أو يوشح به صدره.. ومنهم من يخون أمته، فيحرض على جزء منها أعداءها، ويمدّهم بمعلومات‮ ‬عن‮ ‬هذه‮ ‬الدولة‮ ‬أو‮ ‬تلك،‮ ‬ولو‮ ‬كانت‮ ‬تلك‮ ‬المعلومات‮ ‬خاطئة،‮ ‬وليس‮ ‬فيها‮ ‬مثقال‮ ‬ذرة‮ ‬من‮ ‬الحقيقة‮.‬
إن تاريخ أمتنا بقدر ما يتلألأ بمواقف الشرف، والمروءة، والعزة، والأنفة، بقدر ما فيه من مواقف الخزي، والهوان، ومن آخر ما علمنا من هذه المواقف الرخيصة ما ذكره الجنرال الأمريكي تومي فرانكس، قائد القوات الأمريكية في الهجوم على العراق، عن مسؤوليْن “عربييْن” وضعتهما الأقدار على رأسي شعبيهما، حيث قال عن أحدهما بأنه قال له: “سعادة الجنرال، اعتمادا على مصادر استخباراتية موثوق فيها، أعتقد أن العراقيين يخفون أسلحة كيماوية وبيولوجية”. وقال عن الآخر: “مال إليّ، ونبس بلغة انجليزية واضحة: جنرال فرانكس، عليك أن تكون شديد الحذر،‮ ‬نحن‮ ‬تكلمنا‮ ‬مع‮ ‬صدام‮ ‬حسين،‮ ‬إنه‮ ‬رجل‮ ‬مجنون،‮ ‬وهو‮ ‬يمتلك‮ ‬أسلحة‮ ‬دمار‮ ‬شامل‮ ‬كيماوية،‮ ‬وهو‮ ‬سيستعملها‮ ‬ضد‮ ‬وحداتكم‮”.‬
‮(‬مذكرات‮ ‬تومي‮ ‬فرانكس‮. ‬الحلقة‮ ‬9،‮ ‬الشرق‮ ‬الأوسط‮ ‬29‮ ‬‭/‬‮ ‬8‮ ‬‭/‬‮ ‬2004‮).‬
لو‮ ‬كان‮ ‬هذان‮ ‬الحاكمان‮ ‬أمينيْن،‮ ‬مأمونين‮ ‬على‭ ‬أمّتهما‮ ‬لما‮ ‬ركنا‮ ‬إلى‮ ‬هذا‮ ‬العدو‮ ‬الذي‮ ‬قد‮ ‬يميل‮ ‬عليهما‮ ‬بعدما‮ ‬يتخلص‮ ‬من‮ ‬الشخص‮ ‬الذي‮ ‬حرّضاه‮ ‬عليه‮.‬
إن ضعف الإيمان، بل انعدامه، هو الذي جعل هذين المسؤولين يتحيزان إلى هذا العدو، وجاهلين أن موالاة الأعداء يجعل حكمهما لحكم الأعداء، حيث يقول الله عزوجل: “ومن يتولّهم منكم فإنه منهم”. ومعنى “فإنه منهم” كما جاء في تفسير الإمام القرطبي: “وجبت معاداته كما وجبت معاداتهم،‮ ‬ووجبت‮ ‬له‮ ‬النار،‮ ‬كما‮ ‬وجبت‮ ‬لهم،‮ ‬فصار‮ ‬منهم،‮ ‬أي‮ ‬من‮ ‬أصحابهم‮”.‬
لو كان هؤلاء الحكام على هدى من ربهم، وعلى بصيرة مما جرى تحت أعينهم لاتعظوا بحكام قبلهم خانوا الله، ورسوله، وشعوبهم، فلما أدار الله حكمهم تنكر لهم أولئك الذين استعملوهم، فمن يضمن لهؤلاء الحكام أن لا يكون مصيرهم كمصير أولئك..
اللهم‮ ‬ارزق‮ ‬أمتنا‮ ‬قادة‮ ‬مؤمنين،‮ ‬وطنيين‮ ‬يهدونها‮ ‬بأمرك‮ ‬إليك،‮ ‬ولا‮ ‬تسلط‮ ‬علينا‮ ‬بذنوبنا‮ ‬من‮ ‬لا‮ ‬يرقب‮ ‬فينا‮ ‬إلاّ‮ ‬ولا‮ ‬ذمة‮.‬

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!