-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

لا بديل عن الغموض الاستراتيجي الآن؟

لا بديل عن الغموض الاستراتيجي الآن؟

يَبرُز خيار ” الغموض الاستراتيجي” عادة عندما لا يُريد طرف من الأطراف أن يَعرِف خصمه ما الذي سيقوم به بالفعل وما هي الأدوات التي سيستخدمها لمواجهته.

وتُوَفِّر الأوضاع الدولية غير المُستَقِرة، أو الانتقالية المناخ المناسب لانتشار مثل هذا الخيار. ولعلي أزعم أن المرحوم “عبد الحفيظ بوصوف” مؤسس المخابرات الجزائرية كان أول من استخدم هذا الخيار عملياتيا خلال الثورة الجزائرية حيث لم يكن لا الشرق ولا الغرب ولا العدو الفرنسي يعرف بالضبط ما الذي سيفعله وما السلاح الذي سيستخدمه.

وكان ذلك جوهريا لانتصار الثورة وللحصول في ذات الوقت على السلاح السوفياتي عبر الصفقة التشيكية وأجهزة التصنت والاتصال الأمريكية عبر القاعدة العسكرية الأمريكية في المغرب. كما كان جوهريا في عدم فهم التوجهات السياسية الكبرى للجزائر حتى إلى ما بعد الاستقلال.

بل لعلي أقول إن الجزائر بدأت تعرف الصعوبات تلو الأخرى في اللحظة التي تخلت عن غموضها الاستراتيجي وصَرَّحت بخيارها الاشتراكي في برنامج طرابلس (1962)، وميثاق الجزائر (1964) نتيجة تأثير واسع للانتلجسيا اليسارية الأكثر تماسكا وفعالية من غيرها آنذاك. ومنذ ذلك التاريخ والجزائر تفتقد لهذا الخيار، بل مالت في بعض الأحيان وخاصة بعد تسعينيات القرن الماضي إلى أن تُصبح أكثر قربا من المنظومة الغربية الفرنكوفونية بالتحديد. ثم فقدت بعدها لون الخيارات. وها هي اليوم تحاول استرجاع ما فقدته. ولعلنا نميل جميعا لأن يكون توجهنا شرقا لا غربا. بحكم تجربتنا التاريخية، أي أن تكون لنا وجهة خير من ألا يكون لنا شيء. وقد كَتبتُ في هذه المساحة سابقا أن علينا إما تغيير الوجهة أو الغرق في الفتن، وبدا لي أن الشرق دائما أفضل، إلى أن اندلعت الحرب في أوكرانيا، وازدادت التوترات حول تايوان، وبات واضحا أن العالم يدخل مرحلة تحول قد تستمر لسنوات أو عقود وأصبح لزاما علينا تكييف موقفنا الجديد مع التطورات.. وفي هذه اللحظة بدا لي أن العودة إلى الموقف “البوصوفي” أسلم. العودة إلى الغموض الاستراتيجي أفضل. ليس بإمكاننا أن نكون مع “البريكس” كما أنه ليس بإمكاننا أن نكون مع الاتحاد الأوروبي، ليس بإمكاننا أن نعادي الحلف الأطلسي وليس بإمكاننا  أن نكون عضوا في منظمة شنغهاي الاقتصادية والأمنية بقيادة الصين وروسيا. لذلك لا بديل عن خيار الغموض الاستراتيجي اليوم بالذات.

الولايات المتحدة تعتمده في الموقف من تايوان حتى لا يعرف خصمها الأول الصين ماذا ستفعل؟ والكيان الصهيوني يعتمده في مسألة امتلاك السلاح النووي حتى لا يعرف خصومه ما إذا كان سيستخدمه أم لا؟ ويبدو أن هناك محاولات لدول كثيرة بهذا الاتجاه…

ومثل هذا الخيار أصبح اليوم في ظل التحولات السريعة في النظام العالمي أقل جلبا للمصاعب والمخاطر…

علينا أن نفرق باستمرار بين مشكلات الغموض الاستراتيجي في السياسات الداخلية الذي هو دون شك ذو آثار سلبية، (السياسات القطاعية)، وتلك المتعلقة بالسياسات الدولية في ظرف متحول كالظرف الراهن.. إننا لا نستطيع أن نختار مع مَن نكون في هذا الظرف بالذات. إن المواقف متقلبة والأدوار كذلك. إن التفكير في تعزيز جبهتنا الداخلية قرار صائب، والتفكير في تعزيز محيطنا المباشر الأقرب فالأقرب أكثر من أولوية، وبعدها يأتي الحديث عن التحالفات الخارجية: “البريكس” أو غيره سواء… وهذا ليس اليوم، ولا حتى غدا القريب.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!