-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

لا حُبّ من دون غيرة

سلطان بركاني
  • 746
  • 0
لا حُبّ من دون غيرة

الثقافة العلمانية المعاصرة تروّج لمغالطة أنّ الرّجل الذي يحبّ زوجته هو ذلك الذي يحترم اختياراتها في الحياة، ويشجّعها على أن تكون حرّة في كلّ شؤونها كما هي حرّة في اختيار الطّعام الذي تتناوله! والرّجل الواعي هو ذلك الذي لا يتدخّل في ميول أبنائه وبناته ولا يملي عليهم قراراتهم المتعلّقة بالهيئة واللباس واختيار الأصدقاء، بل ولا يتدخّل في علاقتهم بالدّين، ولا ينكر عليهم حتى لو اختاروا دينا آخر غير دين والديهم!
هذه النّظرة العلمانية، مبنية على جهالة بحقيقة النفس البشرية المجبولة على تفضيل الطرق السهلة والمختصرة وإيثار العاجلة، والتي تتشكّل بالبيئة وتُوجّه بنزغات الشّيطان، وبالتالي فهي في حاجة إلى المجاهدة من قِبل صاحبها، وإلى كلّ دعم خارجيّ يوجّهها إلى الطّريق الذي تصل من خلاله إلى تحصيل ما ينفعها ويرفعها وليس ما تهواه ويضعها.
الأسرة، لا بدّ لها من قائد موجّه، والرّجل بمؤهّلاته الجسدية والعقلية هو الأقدر على تولّي هذه المهمّة التي هي تكليف أكثر منها تشريف، ومن واجبه أن يضبط وجهة أسرته على نظام واضح المعالم لتؤدّي رسالتها في الوجود، وتعيش الحياة الآدمية الراقية ولا ترتكس في حياة تحكمها الشهوات والغرائز.. ولا يشكّ عاقل نظر في الأديان وفي القوانين التي سنّتها البشرية لتنظيم حياتها، أنّ أرقى قانون سُنّ لتنظيم الحياة البشرية هو القانون الإلهيّ الذي جاءت به شريعة الإسلام.
الرّجل في شريعة الإسلام هو قائد البيت الذي يأخذ المجداف ويوجّه الشّراع ويمخر بسفينة الأسرة عباب بحر الحياة، ولا يرى في قوامته منصبا سياديا يتسلّط من خلاله على أفراد أسرته بقرارات غير قابلة للنّقاش والأخذ والردّ، وإنّما ينظر إليها على أنّها مسؤولية يحاسب بها بين يدي من كلّفه بها وألزمه بأدائها، لذلك فهو الموجّه الرفيق الشفيق، الذي يجعل من حديث النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: “ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه” (رواه مسلم) دستورا له، والهمّ الأكبر الذي يشغله هو أن يستقيم أفراد أسرته على ما فيه سعادة الدّنيا والآخرة، وليس أن يذعن له الجميع ويكونوا طوع أمره ورهن إشارته.. لكنّه -مع ذلك- متى ما رأى نفس فرد من الأفراد قد تمرّدت وانحدرت إلى التراب، فإنّه يتدخّل بما يقتضيه المقام، لإعانة الفرد على نفسه وتحريره من سطوتها وطغيانها.
الرّجل الحريص على مصلحة أفراد أسرته، ليس هو الذي يلقي لهم الحبل على الغارب في واقع مليء بوسائل التأثير التي تخاطب العواطف والكوامن وتستثير الشهوات، إنّما هو الذي يظهر الاهتمام بأن تكون اختيارات أفراد الأسرة مبنية على التدبّر وحسن التقدير وعلى النظر في العواقب والمآلات، سواء كانت عواقب دنيوية أو عواقب أخروية.
لو أنّ أحد أفراد الأسرة مرض -مثلا- ووصف له الطّبيب دواءً وأوصاه بحمية معينة مدة 15 يوما، لكنّ هذا الفرد وبدافع الملل قرّر أن يتخلّى عن الدّواء والحمية بعد أسبوع، فتدخُّلُ الأب العاقل في هذه الحال يعدّ تدخلا ضروريا، مهما أحسّ المعنيّ أنّه تدخّل في أمر يخصّه.. وهكذا كلّ تدخّل لإلزام أفراد الأسرة بما فيه خيرهم ومصلحتهم.
الطّفل الذي يكون عقله غير ناضج، يميل إلى اللهو واللعب في كلّ أموره، حتى في الأمور التي تستدعي الجدّ والحزم، وإذا تُرك لنفسه، فإنّه سيتحوّل إلى كائن عابث ينفر من كلّ أمر جدي.. وهكذا في مرحلة الشباب؛ حيث تميل نفسه إلى الشهوات العاجلة، وإذا لم يجد من يردّه في كلّ مرّة إلى عقله، فإنّه سيتحوّل إلى كائن شهوانيّ لا يرعى حراما ولا ممنوعا ولا عيبا.. وهكذا المرأة؛ فهي بطبعها ميالة إلى العاطفة، سريعة التأثّر بمحيطها وواقعها، لا تملك دافعا قويا لمخالفة الواقع، فهي في حاجة إلى رجل يغلب عقله عاطفته، يصمد أمام الواقع ويختار المواجهة كلّما اقتضى الأمر.. لذلك كان من واجبات الزّوج أن يسند زوجته لتتحكّم في عاطفتها وتكون أقدر على مخالفة الواقع ومواجهته إن اقتضى الأمر.. المرأة إذا رأت النّساء من حولها تَمَالَأْنَ على سلوك طريق معين، فإنّها لا تحبّ أن تتجشّم تبعات مخالفة ذلك الطّريق، بل تختار -في الغالب- المسايرة بدل المخالفة، وهنا تكون الحاجة إلى دور الرّجل ليساعدها على اتخاذ القرار المناسب وتحديد الاختيار الصائب.
وعودا على بدء؛ فالزّوج الذي يحبّ زوجته حقيقة، ليس هو من يتركها تسبح وحدها في بحر متلاطم الأمواج وهي التي لا تملك ساعدا قويا، ولا تصبر على التحديق في وجهتها.. إنّما هو الذي يأخذ بقلبها وعقلها قبل يدها لتصبر معه على الطريق الذي يوصل إلى برّ الأمان. فهو يحوطها ويتلقى السهام دونها، ويغار عليها ويحرص على أن تبقى عزيزة كريمة، لا يُنظر إليها بريبة ولا تسمع كلمة مؤذية، فضلا عن أن تمتدّ إليها يد عابث.
ليس من القوامة ولا من الرجولة أن يجلس الزّوج في المقهى مع خلانه، أو يمكث في البيت أمام التلفاز أو الهاتف، ويترك زوجته أو ابنته تنزل إلى الأسواق؛ فتزاحم الرجال في وسائل النقل وفي الأسواق، وتأخذ وترد مع الباعة في أنواع السلع وأسعارها.. ليس من الدّين ولا من المروءة أن يكون الرجل بكامل صحته وعافيته، ويكون لديه الوقت الكافي ليعمل عملا إضافيا، لكنه يرضى لنفسه بالراحة، ويرضى لزوجته بأن تترك عُشها وتخرج للعمل، لتزيد مداخيل الأسرة.. عمل المرأة في مكان يليق بها ويحفظ دينها وكرامتها، مباح، وقد يكون مطلوبا لمصلحة المجتمع، لكنّ من قلة الرجولة والغيرة أن يسمح الرّجل لزوجته أو ابنته بالعمل في مكان لا يليق بها، تُستعبَد فيه وتمتهن كرامتها، لأجل أن يزيد مليونين أو ثلاثة في مداخيل الأسرة!
من أمارات موت الغيرة أن يرى الأب ابنته تُذهب ملامح وجهها بالأصباغ وتلبس الضيّق وتتعطّر لتخرج، فلا ينبس ببنت شفة.. ومن علامات ذهاب الرجولة وقلّة الدّين أن يرى الزّوج زوجته تتزيّن عند خروجها للعمل أو السّوق، فلا يقول لها: لمن كلّ هذه الزّينة؟ ومن أمارات موت الغيرة أن يترك الزّوج زوجته تركب في موكب العرس من دون حجابها، متبرجة بزينة، متمايلة مع الأغاني التي يطلقها العابثون، يصورها المصوّرون ويشير إليها المترصّدون.. من قلة الغيرة أن يترك الزّوج زوجته تدخل إلى الطبيب وحدها، وتركب وحدها مع سائق سيارة الأجرة.. من قلة الدّين والغيرة والمروءة أن يعلم الأب أنّ ابنته تبيت الليل -إلا قليلا- وهي مع الهاتف عاكفة على مواقع التواصل الاجتماعي، فلا ينكر عليها، ولا يتساءل عمّا يحملها على كلّ ذلك السّهر، مع من تسهر؟ ومن تكلّم؟ ومع من تدردش؟!
من الهوان أن تتخذ الزوجة أصدقاء على مواقع التواصل، تحدثهم على الخاص، والزّوج يتظاهر بأنه لا علم له بالأمر! وربّما يسكت عن أفعالها لأنه بدوره يحدث النساء على الخاص. تقول له: اسكت لأسكت، وبدلا من أن يستغفر الله ويتوب إليه، ويزأر كالأسد، إذ به يبلع لسانه، ويترك عرضه تدوسه الكلاب والضباع، ويرضى لنفسه بأن يُحرَم الجنّة: يقول النبيّ -عليه الصّلاة والسّلام-: “ثلاثة قد حرم الله عليهم الجنة: مُدْمِن الخمر، والعاق، والديوث الذي يُقِرّ في أهله الخبث”.
منتهى الهوان والخسران أن يرضى الرّجل المؤمن لزوجته أن تهان وتمندل في الأسواق وأماكن العمل، لأجل راتب قلّ أو كثر، يقول حسان بن ثابت -رضي الله عنه-:
أصونُ عرضي بمالي لا أدنِسهُ * لا بَارَكَ اللَّهُ بعدَ العِرْضِ في المالِ.
حفظ العرض هو أحد الضرورات الخمس التي جاء الإسلام بصونها، والعرض إذا هان على العبد أمسى عبدا ذليلا مهينا لا دين ولا خلق ولا كرامة له، يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله-: “إذا رحلت الغيرة من القلب ترحَّلت المحبة، بل ترحل الدين كله”.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!