لا يساوَم ولا يُهادِن
أخيراً اعترفت السلطة بفضائل آيت أحمد وخصاله، ووصفته بأنه كان محبا لوطنه، حريصا على وحدة شعبه، شريفاً في معارضته لها، جريئاً في مواقفه، لا يساوَم ولا يهادِن…
ومع أن هذا الاعتراف جاء متأخرا وبعد رحيل الرجل بعيداً عن وطنه، إلا أنه نوعٌ من إعادة الاعتبار له بعد أن أمعنت في شنّ حملات تشويهٍ ظالمة ضده، وأطلقت أبواقها الإعلامية للتشنيع عليه، وأخرجت الأطفال من مدارسهم في 1995 ونظمت لهم مسيراتٍ شتموه فيها رفقة بن بلة ومهري وبقية المشاركين في سانت إيجيديو ووصفوهم بـ”الخونة” من دون أن يعرفوا، ببراءتهم، أنهم من زعماء الثورة ومجاهديها الكبار..
لقد ظُلم الرجل ظلما عظيماً بسبب معارضته الشرسة للسلطة، وعدم استسلامه للاستبداد بين 1962 و1989، ورفضِه مهادنتها ومسايرتها في إجهاض المسار الانتخابي في 11 جانفي 1992، والعودة إلى الشمولية مجددا تحت غطاءٍ تعددي زائف هذه المرة.. فكان السجن وحكم الإعدام في البداية، ثم المنفى سنوات طوال، فحملاتُ التشويه والتخوين والشتم… لكن الرجل بقي ثابتا كالجبل، لا ينحني ولا يداهن، ولا يقبل بالأمر الواقع، ولا يرضى إلا بإرساء الديمقراطية الحقيقية في البلد مهما كان الثمن الذي سيدفعه..
حتى حينما حاول النظامُ تدجينه وإغراءه بمنصب رئيس دولة في جانفي 1992، خلفاً للشاذلي، رفض ذلك قطعاً واستنكر على نزّار ورفاقه أن ينصّبوا أنفسهم أوصياء على الشعب ويختاروا له حاكماً لم ينتخبه.. لو كان آيت أحمد انتهازياً، لقبل المنصب من دون تردد، ولما اكترث بالديمقراطية والإرادة الشعبية، لكنه كان واعياً وصادقاً مع نفسه وشعبه، وأدرك منذ الوهلة الأولى أن القوم بصدد رفض نتائج الصندوق، فرفض المنصب المغري، وقضى ستة أشهر يعرض على نزار ورفاقه مخرجاً سلمياً مشرِّفاً للأزمة السياسية الأمنية وهي في بدايتها قبل أن تستفحل وتأتي على الأخضر واليابس، ورافع خلالها بضراوة عن العودة إلى المسار الديمقراطي واحترام إرادة الشعب، ولكنه أدرك في جوان 1992 أن ديمقراطية الواجهة قد كُرّست، فعاد إلى المنفى مجدداً يناضل من هناك من أجل الديمقراطية الحقيقية القائمة على الانتخابات الحرّة وتداول الحكم… وبقي يناضل لتحقيق هذه الأهداف السامية من دون هوادة أو يأس، إلى أن وافته المنيّة.
ولئن مات آيت أحمد بدون أن يتحقق حلمه في إنهاء الشمولية وإقامة ديمقراطية حقيقية، فإن هذه الأهداف التي ناضل من أجلها طيلة 53 سنة كاملة، ستبقى نبراساً يضيء طريق كل التواقين إلى انعتاق بلدهم.. نضالُ الرجل التاريخي في سبيل الديمقراطية والحريات يجب أن يستلهم منه كل معارض شريف في الجزائر، وأن يتعلّم منه معنى التضحية، ورفضِ المساومات والإغراءات والتدجين، والثباتِ على المواقف، والنضال السياسي من أجل إنهاء الاستبداد وإقامة الديمقراطية الحقيقية القائمة على تداول الحكم مهما كان حجم التضحيات…
رحمك الله يا آيت أحمد، ناضلتَ من أجل تحرير وطنك من الاستعمار، ثم من الشمولية، ولم تضعف ولم تهُن، ولم تستسلم ولم تتراجع طيلة حياتك، لذلك ينبغي أن تكون رمزاً عظيماً من رموز الوطن وأن توقّرك الأجيال قروناً طوال.