الرأي

لغة الضاد الآن خارج العصر

عثمان سعدي
  • 1695
  • 14
ح.م

في يوم اللغة العربية الذي يكون يوم 18 كانون الأول ـــ ديسمبر من كل سنة، ينبغي أن نقرّ بأن اللغة العربية بالبلدان العربية خارج العصر، العصر مطبوعٌ بالطابع العلمي التقاني والطب والتقانة بالجامعات العربية تُعلَّم بالإنجليزية مشرقا وبالفرنسية مغربا ــــ باستثناء سوريةــــ الطالب العربي لا يحترم لغته، لأن أعلى المجموع في البكالوريا يتوجه للطب والتقانة التي تُعلَّم باللغة الأجنبية.

إن اكتساب علم العصر يمرُّ بثلاث مراحل: مرحلة المضغ ومرحلة الهضم ومرحلة التمثّل، يمكن لأمة أن تمضغ علوم عصرها بلغة أجنبية، يمكن لها أن تمضغ نصف الهضم وليس الهضم كله بلغة أجنبية، لكن لا يمكن أن تتمثّل علم عصرها إلا باللغة القومية، والتمثّل هو الذي يولّد الإبداع. كل البلدان التي نجحت بها تنميةٌ اقتصادية واجتماعية تم ذلك بلغتها القومية، مثل الصين، واليابان، وكوريا الجنوبية وغيرها، وهذا ما تؤكده هيئة الأمم المتحدة. العرب في القرون الوسطى تمثلوا علم عصرهم بتعلمهم له بالعربية، إذ كانت جامعة قرطبة بالحضارة العربية الإسلامية الراقية يقصدها الطلبة للدراسة فيها من سائر أنحاء أوروبا. عندما سُئل الشاعرُ الإسباني فريديريكو غارثيا لوركا: أتعتبر المرحلةَ العربية بتاريخ إسبانيا استعمارا؟ أجاب: “المرحلة المضيئة الوحيدة من تاريخ إسبانيا هي المرحلة العربية، ما قبلها ظلام وما بعدها ظلام”.

يُصدِر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي سنويا باللغة الإنجليزية في شهر ديسمبر في مقر الأمم المتحدة بنيويورك تقريرا تحت عنوان (تقرير التنمية البشرية). يوجز مترجم هذه التقارير الدكتور علي القاسمي ما ورد عن العالم العربي فيما يلي:

تعْزُو تقارير التنمية البشرية وتقارير التنمية الإنسانية التي أصدرتها الأمم المتحدة، تخلّفَ معظم البلدان العربية في العصر الحاضر إلى عدم عناية هذه البلدان بالتعليم وبالصحة، وإلى استمرارها في استخدام لغة أجنبية، وليس لغتها الوطنية، في التعليم العالي العلمي والتقني، وفي المؤسسات التجارية والمالية والاقتصادية، بل وحتى في بعض الدوائر الرسمية؛ فالطلاب العرب لا يستطيعون استيعاب العلوم والتقنيات الحديثة لأنهم يتعلمونها بلغة أجنبية فلا يتمكنون من إضافة مضامينها إلى منظومتهم المفهومية دون صعوبات، ولا يتمكنون من تبادل هذه المضامين وتنميتها والإبداع فيها بسرعة وسهولة، فالطالب العربي الذي يستمع لمحاضرة علمية باللغة الإنكليزية أو الفرنسية في بلاده يواجه ثلاث صعوبات في آن واحد: أولاً تلقي المعلومة باللغة الأجنبية، وثانياً ترجمتها في ذهنه إلى لغته الوطنية العربية، وثالثاً فهمها لإضافتها إلى منظومته المفهومية، ولهذا فإنه يصعب علينا إيجادُ مجتمع المعرفة القادر على إحداث التنمية البشرية. ولهذا كذلك فإن اللغة العربية من حيث توافرها على الشابكة (الإنترنت) أقلّ من لغات أخرى لا تتمتع بما للّغة العربية من عالمية وعراقة.؛ فاللغة العربية من حيث وجودها على الشابكة تأتي بعد الكورية والفارسية والتركية والبرتغالية. لأن الطبيب العربي الذي تلقى دراسته باللغة الإنكليزية أو الفرنسية لا يستطيع أن ينقل معرفته إلى الممرضة، والمريض، والمساعد التقني، وإلى عامة المتعلمين عن طريق وسائل الاتصال السمعية البصرية، فهو لا يستطيع أن يُنشئ موقعاً له على الشابكة باللغة العربية لإفادة أبناء وطنه. وتبادل المعلومات بسرعة ويسر وتنميتها والإبداع فيها شرطٌ من شروط تكوين مجتمع المعرفة القادر على تحقيق التنمية البشرية في البلاد. ولهذا لم يحدث أن أبدعت أمة بغير لغتها. هذا ما تسجّله تقارير هيئة الأمم المتحدة.

لقد تمكنت بلدانٌ كثيرة كانت أكثر تخلفاً من بلداننا العربية، في أواسط القرن الماضي، من تحقيق التنمية البشرية؛ فكوريا الجنوبية مثلاً كانت عام 1960 أفقرَ دولة في آسيا وثالث أفقر دولة في العالم، أما اليوم فترتيبها هو 17 في سلم التنمية البشرية الذي تُصدره سنوياً منظمة الأمم المتحدة، وهي سابع دولة صناعية في العالم. ويعود الفضل في ذلك إلى قيام الدولة الكورية بنشر تعليم ذي جودة على نفقتها لفائدة جميع أبنائها وباللغة الكورية من رياض الأطفال إلى ما بعد الدكتوراه وفي البحوث العلمية. وكذلك الحال بالنسبة لإيران، فعندما قررت الدولة استعمال الفارسية لتلقين العلوم والتقنيات، أخذ الطلاب يستوعبونها ويشتغلون بفهمٍ في علوم الذرة وغيرها، وأصبحت إيران تخطو خطواتٍ حثيثة في التنمية البشرية. في إسرائيل يُدرَّس الطبُّ والتقانة باللغة العبرية، فمعهد وايزمن لعلوم الذرة يدرِّس باللغة العبرية التي كانت قبل 1948 لغة ميتة، بينما بجوارها أرض الكنانة بملايينها المائة الطبُّ يُدرَّس فيها باللغة الإنجليزية.

هذا ما تقوله وكالة هيئة الأمم المتحدة في العلاقة بين اللغة القومية والتنمية والسبب الذي جعل العرب متخلفين تنمويا، فلا تنمية ناجحة بلا لغةٍ وطنية. وليعلم العرب أن وضع اللغة العربية في المدرسة والجامعة مرتبط بسائر الميادين الاقتصادية والاجتماعية والعلمية والتقانة والتسيير الإداري، وبما أن هذه القطاعات تسيَّر تسييراً أعرجَ باللغة الأجنبية، فالعربية إذن غائبة عن التسيير، هي تعيش بالتلقين في مجتمع تسيِّره اللغة الأجنبية، فالطالب الجزائري مثلا يتعلم الاقتصاد والتجارة باللغة العربية في الجامعة، ولكن عندما يعمل بمؤسسة سواء كانت قطاعا عاما أو قطاعا خاصا يضطر للعمل بالفرنسية وهو يهجّي حروفها، فهو يعيش حياة من الانفصام. التنمية كالبنيان المرصوص من القاعدة إلى القمة، وهذا لا يكون إلا باللغة العربية.

مقالات ذات صلة