-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

لماذا تُراوِحُ قضيّة فلسطين مكانها؟

بقلم: أ. د. فريد حاجي
  • 341
  • 0
لماذا تُراوِحُ قضيّة فلسطين مكانها؟

ليس هناك من حركة تحرّر وطني في العالم بعد الحرب العالمية الثانية استمرّت 76 عاما، فجميعها أنجزت مهام تحرّرها، ما عدا فلسطين. لذا، فالرّأي العامّ العربي تتناسل في ذهنه تساؤلات أبرزها: ما الذي حال –وما زال يحول– دون تحقيق ذلك إلى اليوم؟ هل مردّ ذلك قوّة المحتلّ ومن يدعمه من الغربيّين فقط؟ أم أنّ الأمر يتعلّق بخذلان فلسطين من أشقّائها العرب؟ أسئلة ربّما أجاب عنها “طوفان الأقصى”، سواء عن دور الغرب الذي انكشفت سوءته على جميع الأصعدة، أو تعريّة الأنظمة العربيّة تجاه مقتلة غزّة، وكيف هبّ بعضها للدّفاع عن الكيان عقب الهجوم الإيراني في 14/04/2024.
إنّ مثل هذه المواقف من بعض الأنظمة، ليست بالجديدة، فهناك مثيلاتها منذ الصّفقة المشؤومة بين الاستعمار والحركة الصهيونيّة التي أصبحت امتدادا للغرب الاستعماري في المشرق، صفقة كانت مريحة للطّرفين، أمّا الضحيّة فهي فلسطين. حدث ذلك بعد تنصيب أرستقراطيّات عربيّة، من قبل بريطانيا. ومذّاك، بدأت سيرورة التّأسيس لدويلة الكيان، التي ترعرعت في ظلّ هذه الأرستقراطيات، بل، ومنذ أواخر سبعينات القرن الماضي، بلغ الأمر حدّ حماية أمنها من طرف بعض الأنظمة العربية.

موقف أهل فلسطين الضحيّة
لقد جاء الردّ الفلسطيني مبكّرا، فبعد إقرار بريطانيا وعد بلفور للعام 1917م، جاءت شرارة النّضال الفلسطيني الأولى في 04-10/04/1920م تزامنا مع إحياء موسم النبي موسى (عليه السلام)، وأثناء ذلك اشتبك متظاهرون فلسطينيّون مع اليهود والقوّات البريطانيّة في مدينة القدس، وهو ما شكّل ترجمة فعليّة للوعي بمخاطر الاحتلال والاستيطان. كذلك، نظّم الفلسطينيّون أطول إضراب في التاريخ، (19/04 إلى أكتوبر 1926) بغرض تحقيق مطالب سياسيّة ووطنيّة تتعلّق بمستقبل البلاد. كلّ ذلك، أسّس لما سَيَلِي من محطّات للمقاومة، أبرزها “هبّة البراق” في 1929م، وثورة القسّام العام 1935م، والثّورة الوطنيّة الكبرى المسلّحة (1936-1939م) والتي سحقتها بريطانيا، إذ قتلت الآلاف من نشطائها، وقطّعت أوصالها. وإذا كان ذلك ولّد شعورا عامّا بالإحباط وحالة يأس، فإنّه عمليّا أخرج ذلك الوعي من دائرة “المقاومة السلبيّة” خطابات، ومراسلات، وشكاوى، إلى حيّز المبادرة والإقدام والالتحام.
في المقابل، كان هناك حالة انقسام بين الفلسطينيّين، لاسيّما بين عائلتي الحسيني وفخري النشاشيبي، التي كانت ترى عدم جدوى مقاومة المشروع الصهيوني لأنه سينتصر لا محالة، وراحت تتعاون مع الصهاينة أو مع البريطانيين بدافع الكراهيّة الشّديدة للحاج “أمين الحسيني” يتقدّمهم “راغب النشاشيبي” زعيم العائلة وابن أخيه “فخري”، اللّذان طلبا المساعدة من بريطانيا والصهاينة لمدّهما بالمال والسّلاح والاستخبارات، وقاما بتأسيس ما سُمِّي “كتائب السّلام” القرويّة العام 1938م والتي اشتركت مع القوّات البريطانية في محاربة الثوّار في كثير من الأحيان، وزوّدت هذه الكتائب بمعيّة عناصر المعارضة سلطة الانتداب بمعلومات أدّت إلى القضاء على العديد من الثوّار وإحباط عمليّاتهم. كذلك، هناك من تعاون مع الصهاينة اعتقادا منهم أنّ ذلك من شأنه تحسين حياة قبائلهم وقراهم، كما رأى آخرون استحالة هزيمة الصهاينة، ومن الحكمة التّعاون معهم.
وهناك سرديّة صهيونيّة تدّعي أنّ هناك انتقالا طوعيا جماعيا شمل مئات الآلاف من الفلسطينيّين ممّن هجروا بيوتهم وقُراهم مؤقّتا لفسح الطريق أمام الجيوش العربية استعدادا لتدمير دويلة الكيان الوليدة، مثلما زعم “ش. بيريز” العام 1993م قائلا: “…الفلسطينيّون هربوا من قراهم ومدنهم في العام 1948م بأوامر من قادتهم”. ذلك الادّعاء، نفاه “إيلان بابي”: “… لم يهربوا بناء على طلب القادة العرب، بل أُخرِجوا بالقوّة”، وفنّده “إرسكين تشايلدرز” (1929-1996م) قائلا: “… ليس هناك أمرٌ أو نداء أو اقتراحٌ واحدٌ يمكن أن تكون قد بثّته أيّ إذاعة عربيّة داخل أو خارج فلسطين خلال العام 1948م يشجّع الفلسطينيين على الرّحيل، بل على العكس؛ ألتُقطت تسجيلات متكرّرة لنداءات وأوامر موجّهة من إذاعات عربية إلى الفلسطينيّين تطلب منهم البقاء في فلسطين”. أمّا السفّاح “مناحيم بيغن” فقال: “… كان لمذبحة دير ياسين (أفريل 1948م) نتائج كبيرة غير متوقّعة؛ فقد أُصيب العرب بعد أخبار دير ياسين بهلع شديد فأخذوا يفرّون مذعورين”.

قرار التّقسيم والموقف الرّسمي العربي
عند صدور قرار التقسيم في 29/11/1947 القاضي بإقامة دولة لليهود وأخرى للفلسطينيّين، قوبل بمعارضة الجامعة العربية للفكرة. وعند إنهاء بريطانيا انتدابها على فلسطين، جاء إعلان قيام دويلة الكيان من جانب واحد في 15/05/1948م، لم ترغب الدول العربيّة في التحرّش بمصالح بريطانيا، ولم تكن جيوش مصر وسوريا والأردن ولبنان والعراق موحَّدة من أجل منع قيام دويلة الكيان، ولا من أجل تحرير فلسطين، ولا من أجل إجهاض قرار التقسيم، بل العمل على حدود التّقسيم، واقتصر أمرها على إدارة وحدات المتطوّعين المتمثّلة في جيش الإنقاذ برئاسة اللّواء “إسماعيل صفوت” رئيس أركان الجيش العراقي، واستمرّت العمليّات العسكريّة حتى جانفي 1949م، وتبيّن أن القوّات الصهيونيّة قد سيطرت على مسرح العمليّات، ممّا أفضى إلى تأكيد تقسيم فلسطين عمليّا.
حسب “صالح صائب الجبوري(1898-1990م)، جاء هذا التدخّل العربي بادّعاء منع قيام دويلة الكيان، لكنّ الدول المتدخّلة تصرّفت على نحو أدّى إلى منع قيام الدولة العربيّة الفلسطينيّة، وحدها، وراحت تُلقي اللّوم على بعضها البعض والاتّهام بالتقصير. وكان ملك الأردن “عبد الله بن الحسين”، قد أصّر على أن تكون قيادة القوّات العربيّة له، وعارضته الدولُ العربيّة، ثمّ تراجعت بضغط من بريطانيا. وللتّنبيه، كان الجيش الأردني يقوده القائد البريطاني “غلوب باشا”. وكان الملك، يُجري اتّصالات سريّة مع “ح. وايزمان” و”ابن غوريون” باستمرار. وقد سلّم مدينتي “اللّد” و”الرّملة” للصهاينة من دون قتال، بعد سيطرة القوّات العربية عليهما، والتي وصلت إلى أبواب “تل أبيب” فأمرها بالتقهقر إلى الوراء، والعودة إلى مراكزها السّابقة. ويقول “عبد الله التل” (1918-1973م) قائد جبهة القدس، أنّ الملك قال: “… إنّي أخاف على فلسطين من قريب حاسد، أكثر من عدوّ حاقد” ويضيف “التل” قائلا: “… كان يرغب من صميم قلبه أن يحتلّ اليهود غزّة لأنّهم وَعدوهُ بجعلها ميناءً عربيّا”. ويقول السوري “فوزي القاوقجي” (1890-1977م) أحد قادة جيش الإنقاذ: “… إنّ خطط الجيوش العربيّة كانت تصل إلى اليهود”. ويقول الشيخ “الصواف” (1915-1992) عن “القاوقجي” :… هذا القائد أحد الذين كنّا نظنّ فيهم الخير، فإذا به يهوي إلى درك المهانة والخيانة ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله”. وحسب “الجبوري: “… كان لقائد الجيش الأردني “غلوب باشا”، دور مباشر في حصر دور القوّات العربية عند خطوط التقسيم، فتحوّل دورها من الهجوم إلى الدفاع”.
من ناحيّة أخرى، تذكر المؤرّخة الفلسطينيّة “خيرية قاسمية” أنّ بريطانيا استخدمت خبرتها الطّويلة في المخاتلة، وجنّدت بلدان المحيط العربي، مملكة “عبد العزيز بن سعود” في الجنوب، الذي كان مستشاره السياسي والرحالة البريطاني “جون فيلبي” (1855-1960م)، وإمارة “عبد الله” في شرق الأردن التي أوجدها “تشرشل” لخدمة الصهاينة، حسب “عبد الله التل”، ومملكة “فيصل بن الحسين” في العراق..الخ. وقد وجّه هؤلاء نداءهم لعرب فلسطين يدعونهم إلى وقف الثّورة والرّكون إلى حسن نية بريطانيا وإفساح المجال للتّفاوض معها. وقد لخّصت حكومة العراق برئاسة “نوري السعيد” (1888-1958م) دوافع هذا النداء في نقطتين،
هما: “…روابط الأخوّة مع عرب فلسطين من ناحيّة، وعلاقات الصّداقة والتّحالف مع الحكومة البريطانية من ناحية أخرى”. أمّا ملك الأردن، وفي رسالة إلى المندوب السّامي البريطاني يقول: “… إنّ موقفي ينطلق من ثلاث نقاط؛ الحرص على توفيقكم، وسلامة العرب، وعدم حرمان اليهود من مكتسبهم”. كذلك، دعا “نوري السعيد” فيما سمّاه “الكتاب الأزرق” الحلفاء إلى توحيد بلاد الشّام الأربعة في دولة واحدة، وتشكيل اتحاد بينها وبين العراق، على أن يُمنح اليهود في فلسطين إدارة شبه ذاتيّة للمناطق التي يشكّلون فيها الأكثرية”.
وقد جاء في مذكّرات “عبد الرّحمن عزّام باشا”، أوّل أمين عام للجامعة العربيّة بخصوص “نوري السعيد” قائلا: “.. كنت أعرف بتفاصيل ما حدث عندما أمر “غلوب باشا” قوّاته بالانسحاب من اللدّ والرّملة وتسليمها للإسرائيليّين.. اتّهمته بالتآمر على قضيّة فلسطين، وتنفيذ مخطّطات الإنجليز والصهيونيّة العالمية ..وحاول أن يدافع عن نفسه، ولكنّني صرخت في وجهه: اسكت يا نوري وإلاّ خرجت من هنا لأُعلن أمام الجماهير حقيقة مؤامرتك على شعب فلسطين.. وسكت ولم يتكلّم”.
كلّ ذلك، يشي بأنّ حكّام هذه الدول كانت لديهم رغبة مكبوتة، وهي الحرص على أن لا تتحوّل قضيّة فلسطين إلى عامل يعكّر صفو حياتهم ومن ثمّ، معونة الدول التي تسند المشروع الصهيوني. وبالنتيجة، صادر هؤلاء الحكّام حقّ الفلسطينيّين في صياغة سياستهم، ولا يزال هذا مستمرّا إلى اليوم.
في العام 1967م تعرّضت جيوش ثلاث دول عربيّة لهزيمة ساحقة، خلال أيام 5-10/06/1967، إذ احتلّ الصهاينة شبه جزيرة سيناء وهضبة الجولان والضفّة الغربية وقطاع غزّة، والقدس الشرقيّة التي كانت تسيطر عليها القوّات الأردنيّة. وحسب وزير الحرب المصري “محمد فوزي” أنه: “… حتى بدء القتال مع الكيان في 5/6/1967م، لم يكن الجيش المصري قيادة موحّدة، ولم تكن هذه الجيوش مستعدّة أصلا لخوض حرب دفاعيّة.” وقد أنهكتها حرب اليمن (1962-1970م). وقال “عزّام باشا”: “… توقّعت الجيوش العربيّة الداخلية وبحقّ، أنّه ليس بوسعهم هزم القوّات اليهوديّة، وأنّ أحد الدّوافع الرئيسة لانضمامهم للمعركة كان منع استمرار تهجير الفلسطينيّين من بلداتهم”. ومذاك، تبدّدت التوجّهات الخاصّة بشنّ حرب شاملة على الكيان الصهيوني قصد تحرير الأراضي التي احتُلّت العام 1967م، ما عدا محاولة مصر وسوريا التخلّي عن خطط الدفاع، وتبنّي مبدأ الهجوم المحدود، وتمثّل في حرب أكتوبر العام 1973م، والتزم الأردن، مبدأ الدّفاع منذ نهاية حرب 1967م.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!