الرأي

لن ينتظرنا العالم أكثر…

محمد سليم قلالة
  • 3339
  • 10

انعدام الرؤية يؤدي إلى الخوف من السير إلى الأمام، أي إلى الخوف من التقدم، والخوف من التقدم يؤدي إلى عدم التقدم، وعدم التقدم يؤدي إلى التأخر. ذلك ما ينطبق علينا تماما عندما نقارن بين التطور الذي يحدث في العالم وما يحدث عندنا من لامبالاة وسكون بل وتقهقر إلى الوراء يكاد يمس كافة المجالات، إلا تلك التي تبدو شكليا أنها من سمات التقدم وما هي كذلك كأنماط الاستهلاك، الانفتاح العشوائي على العصر…الخ، ذلك ما استنتجته من مقالة كتبتها في فترة مضت عن واقعنا بعنوان: “دولتنا المستقبلية ودولتهم الافتراضية” أعود لمحتواها الآن ونحن نعيش ما نعيش من تحول إلى الوراء…

قراءة سريعة في المصطلحات السائدة اليوم في عالم السياسة  والاتصال (بعيدا عن التكنولوجيات التي لها شأن آخر) تبين لنا هذه الحقيقة: الديمقراطية سارت منذ نحو عشرين سنة نحو الديمقراطية الإلكترونية حيث لم تعد هناك إمكانية للتزوير في أغلب البلدان المتقدمة، وهي تسير الآن نحو “النتوقراطية” netocracy   حيث يصبح التحكم في الشبكات  الإلكترونية وشبكات الشبكات أساس التحكم في العملية السياسية. مثلما شرح كل من Alexander Bard وJan Söderqvist في كتابهما الذي يحمل ذات العنوان سنة 2000 (لم يترجم إلى الفرنسية حتى سنة  2008 تحت عنوان Les Netocrates) ومفهوم الأغلبية التقليدي الذي يعني خضوع الأقلية للأغلبية أخذ أبعادا جديدة، إذ أصبح هناك ما يعرف بالأغلبية المصغرة Minimajoritarian التي تعني الدمج بين قوانين الأغلبية وسلطة الأقلية، وانصهار قاعدة الأغلبية في قوة الأقلية.. والمستهلك تحول إلى منتهلك والاستهلاك إلى انتهلاك  prosumption ((production + consumption على حد تعبير ألفين توفلر في كتابه الموجة الثالثة، وتحولت الشخصية الفردية إلى شخصية شبكية، والتخصص في العلوم والطب إلى المفاهيم الكلانية Holisme القديمة الحديثة… والاتصال عبر شبكة الانترنت من خلال النقر (شبكة النقر) إلى الاتصال عبر الانتباه أو الانتباهية، والاكتفاء بشبكة انترنت التقليدية إلى الانتقال إلى شبكة انترت2 المتخصصة في ربط مراكز البحث الكبرى في الولايات المتحدة الأمريكية أولا ومع بقية العالم بعد ذلك… والحديث عن السلطة المركزية يستبدل بالحديث عن السلطة التجاورية الرافضة لتحكم المركز… وهكذا في أكثر من مجال من مجالات لحياة، هناك تبدل سريع ومستمر في كل الإدراكات والمفاهيم من المجتمع إلى البيئة المحيطة به إلى الفضاء الخارجي. لم يبق شيء لم يتغير ولم تبق مفاهيم لم تتبدل إلا عندنا فكل شيء ينحو منحى الجمود والستاتيكية على مستوى الأفكار والسلوك وحتى نوعية الرجال والنساء الذين يحكمون.

لحد الآن مازلنا نعتقد أنه من السياسة ومن الحكمة أن نُزوِّر الانتخابات باسم مصلحة مزعومة للدولة، وأنه بدل أن نستغل التكنولوجيا في مراقبتها والتعرف على نتائجها وتصحيح أخطائها ندفع باتجاه أن يُصبح الحاسوب مزورا، ونقنع مهندسينا بأنه من مصلحة الدولة أن يتم “الإبداع” في مجال حساب النسب والمعدلات المزورة دون أن تكتشفها المعارضة المسكينة أو دون أن تكون لديها الإمكانية لاكتشافها حتى ولو أرادت… مازلنا نعتقد أنه من مصلحة الدولة أن تبقى النخبة دون مستوى القرار، منفذا آليا له، أو بعيدة كل  البعد عنه. حرام أن تكون هي التي تعد القرار وتتخذه وتعلنه وتطبقه، ينبغي أن تبقى دون هذا المستوى ببعيد، النخبة ينبغي أن تُذل وتُهان أو تُهمش إلى أي مكان إلا أن تقود هي السلطة أو تتحول إلى سلطة إلى “نتوكراسي”، ولو بعد عقود من الزمن: إلا هذه فحرام. نحن ينبغي أن نبقى نعيش في العالم الآخر بعيدا عن كل تقدم وعن حضارة الموجات الثلاث… نحن ينبغي أن نعيش في قوقعتنا نُمني النفس أننا بعيدون عن تقلبات الكون وتداعياته في جميع المجالات: نحن بخير.

وهكذا تبدو لنا مشكلاتنا المحلية وكأنها ألغاز لا تحل، ويعجز كبار مسؤولينا عن إيجاد مقاربة لها. لا نستطيع أن ندرك أن المشكلة في  ولاية غرداية أو في بلاد القبائل أو في كل المناطق المهمّشة في بلادنا هي مشكلة علاقة بين أقلية وأغلبية، بين مركز ومحيط، بل لا ندرك بأن التصرف على أساس جهوي واضح ومفضوح لدى مسؤولين كبار، إنما هو عجز عن إيجاد حل لمشكلتين متلازمتين اليوم: الأقلية والأغلبية، والحكم المركزي والجهوي. لا نريد أن نفهم بأننا جزء من العالم الذي يعيش مثل هذه المشكلات وأن هذا العالم ابتكر حلولا لها بما يتناسب والتطور الحاصل في الجانب التكنولوجي والمعرفي. وهو الآن يتكيف بسرعة مع ما يحصل لديه من تبدلات… أما نحن فيبدو أن مسؤولينا سينتظروا كما انتظر القذافي إلى أن مادت الأرض من تحت أقدامه، أو كما انتظر الأسد، أو مبارك أو غيره من المنتظرين إلى اليوم. سينتظرون إلى أن يتحرك الناس على الطريقة الليبية أو الداعشية أو بوكوحرامية، وعندها سيتولون علاج المشكلة بالوسائل التي لا تعالجها أبدا: القوة التقليدية والتمادي في استخدام كل وسائل العنف المتبادل.. بدل أن يستبقوا الأزمة اليوم ويعملوا بوضوح على إيجاد ولو أشكال أولية لمفاهيم الأغلبية المصغرة، والسلطة التجاورية الرافضة لحكم المركز الواحد تبرز لنا مؤشرات هنا وهناك تؤكد إصرار البعض على البقاء ضمن منطق سلطة الرجل الواحد القادر على فعل كل شيء والذي ينبغي أن يخضع لأوامره الجميع. وينسى الجميع أن ذلك ليس سوى هروب من التعاطي مع واقع ضاغط علينا من كل جانب وعجز على إيجاد حلول مبتكرة لمشكلاتنا والقبول بوهم علاج من خلال مسكنات لن يدوم مفعولها أبد الدهر.

 وفي جانب ثالث مازلنا نعتقد بإمكانية استيعاب الواقع المركب الذي نعيشه من خلال حزبين يزعمان امتلاك الأغلبية وعدد آخر من الأحزاب التابعة التي تريد أن توهم نفسها بلعب دور في التغيير وما هي كذلك… في الوقت الذي أصبح لزاما علينا إذا أردنا أن نتجنب ما حدث لغيرنا أن نبادر إلى إعادة تشكيل الخارطة السياسية بقوى سياسية جديدة، بالسماح ببروز قوى تمثل حقيقة التحول الحاصل في المجتمع وتدرك ما يحيط به من تغييرات وبخاصة تلك المرتبطة بتحول السلطة في العالم.

إننا  لا يمكن أبدا أن نتوقع بقاءنا بمنأى عما حدث في العالم العربي من حولنا من صراعات واضطرابات دموية عنيفة، بهذا السلوك الذي نسلك اليوم القائم على فرضية أن كل شيء إنما مصدره الخارج وإذا ما تمكنا من إسكات الخارج أو شرائه أو الخضوع لطلباته نجونا بأنفسنا… الحقيقة هي خلاف ذلك، الحل يكون مع الداخل أولا، ينبغي أن ينطلق من حقيقة ثابتة لا شك فيها أننا نعيش تبدلات عالمية عنيفة ينبغي أن نتكيف معها بالسرعة اللازمة إن في السياسة أو الاقتصاد أو الإعلام. ومقاومة هذه التبدلات بالوسائل التقليدية لن تجدي نفعا، لا بد من تغيير الأساليب والوسائل والرجال في أقرب الأوقات وإلا فإننا حقيقة سنصمد لبعض الوقت وربما لمزيد من الوقت ولكننا أبدا لن نستطيع الصمود أكثر مما صمدنا..فلنقرأ المستقبل بطريقة أفضل إذا أردنا أن نستمر فاعلين. ولم يبق لنا الكثير من الوقت لقراءته واستيعابه.. لقد تأخرنا كثيرا… ولن ينتظرنا العالم أكثر لينقلب علينا كما فعل بغيرنا .. فلنستبق ذلك قبل فوات الأوان..

مقالات ذات صلة