-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
للمسؤولين المغانم وعلينا المغارم

لهم طيّبها ولنا كراديسها!

سلطان بركاني
  • 3378
  • 0
لهم طيّبها ولنا كراديسها!

أصاب النّاسَ على عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، أواخر سنة 17هـ، وأوائل عام 18هـ، قحطٌ شديد، قلّ معه الطعام، وغارت مياه الآبار، واضطرّ المسلمون إلى حفر الجحور لأكل الحشرات، وكانت الريح تحمل تراب الأرض فتسفّه كما يسفّ الرّماد، من شدّة الجفاف، حتى سمّي ذلك العام عام الرّمادة.. في تلك الأيام أقسم أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، ألا يذوق لحما ولا سمنا حتى يحيا النّاس، وقال: “كيف يعنيني شأن الرعية إذا لم يمسّني ما مسّهم”، عانى ما عانته رعيته وتكبّد الجوع وألمه، حتى تغيّر لونه واسودّ وجهه، وعندما تأتّى لأهل المدينة يوماً من الأيام أن ينحروا جزوراً، تخيّروا له من سنامها وكبدها، فلمّا وضع بين يديه، قال: أنّى هذا؟ قالوا: يا أمير المؤمنين، من الجزور التي نحرناها اليوم. فقال: “بخ بخ، بئس الوالي أنا إن أكلت طيّبها، وأطعمت الناس كراديسها (عظامها)، ارفعوها عنّي وأطعموها المسلمين”.

 ظلّ الفاروق -رضي الله عنه- يبيت اللّيل لا يكاد يهجع إلا قليلا بسبب الهمّ الذي اعتراه، حتى قال أسلم مولاه: “لو لم يرفع الله تعالى المحلّ عام الرّمادة، لظننّا أنّ عمر يموت همًا بأمر المسلمين”، وعندما أصاب النّاسَ غلاء وشحّ في الطّعام، كان لا يأكل إلا خبزا مثرّدًا بالزيت، فتقرقرت بطنه، فقال يخاطبها: “قرقري أو لا تقرقري، فليس لك إلا الزيت والخبز، لن تأكلي غيرهما حتّى يطعم أولاد المسلمين”.

بعدها بسنوات، عندما فتح عتبة بن فرقد أذربيجان، أرسل إلى أمير المؤمنين سفطين عظيمين من الخبيص (طعام مخبوص من التّمر والسّمن)، فلمّا وُضعا بين يديه قال: أيّ شيء هذا؟ قالوا: خبيص، فذاقه فإذا هو شيء حلو. فقال: أ كلّ المسلمين يشبع من هذا في رِحله؟ قالوا: لا. فقال: أمّا لا، فردّوهما، ثمّ كتب إلى عتبة بن فرقد يقول: “أما بعد، فإنّه ليس من كدّ أبيك ولا من كدّ أمّك. أشبِعِ المسلمين ممّا تشبع منه في رحلك”.

هكذا كانت سيرة الخلفاء الرّاشدين الذين تربّوا في مدرسة الحبيب المصطفى صلّى الله عليه وآله وسلّم، الذي ربط حجرا على بطنه من الطّوى عام الخندق عندما ألمّ بأصحابه جوع ومرّت بهم 3 أيام لم يذوقوا فيها طعاما، وكان يجلس بين فقراء الصفّة يقرئهم القرآن وقد ربط على بطنه حجراً من الجوع، يعاني ما يعانون ويكابد ما يكابدون.

وهكذا كان الصّالحون من أمراء المسلمين، في محطّات متفرّقة من التّاريخ الإسلاميّ، يبدؤون بأنفسهم إذا أصابت النّاس خصاصة، ولا يستأثرون بشيء دون المسلمين، ثمّ كانت بعد ذلك قرون، اتّسع فيها البون بين الرعية والرعاة، وأصبح الأمراء والوزراء يرزخون في أفخر الثياب ويأكلون من أطيب الأطعمة، بينما الرعية ربّما تمرّ بها أوقات عصيبة، لا يجد النّاس في أيامها ضروريات الحياة.

وفي العقود المتأخّرة اتّسعت الهوة أكثر بين الحكّام والشّعوب، وأضحى حكام المسلمين لكأنّما يعيشون في كوكب آخر غير الكوكب الذي يعيش فيه عامّة النّاس؛ إذا فُتحت على بلدانهم الخيرات، اختصّوا بها وآثروا بها علية القوم من الأقارب والمقرّبين وأصحاب المناصب والامتيازات، وإذا ابتليت بلدانهم بالأزمات، فرضوا على الشّعوب الضّرائب والإتاوات، ورفعوا أسعار السّلع والخدمات، وأخذوا من جيوب الكادحين ليغطّوا نفقات المسؤولين، ومنحوا الأغنياء قروضا ميسّرة يتمّ التّنازل عن أقساط كبيرة منها، وللكادحين قروضا مسمّمة بفوائد ربوية تزيد الطّين بلّة، وتُنذر بالتهاب الأسعار وزيادة التضخّم وتهاوي الاقتصاد.. وتزداد حسرة الكادحين أكثر عندما ينظرون إلى الأمم من حولهم، فيرون دولا يتحلّى حكّامها بالمسؤولية، في وقت الأزمات، ويبدؤون بأنفسهم كلّما استدعت الأوضاع تغيير السياسات؛ يرون –مثلا- كيف أنّ رئيس الوزراء البريطانيّ، ديفيد كاميرون، يقرّر أواسط العام المنصرم تجميد رواتب وزراء حكومته لمدة 5 سنوات، ويرفع شعار “كلّنا مشاركون في سداد الدّين العامّ”، وهو الإجراء الذي يُتوقّع أن يوفّر 4 ملايين جنيه استرليني بحلول العام 2020م، ثمّ يرجعون بأبصارهم إلى دول العالم الثّالث، فيجدون دولا أظهر حكّامها قدرا كبيرا من التحلّي بالمسؤولية في أوقات الأزمات التي تستدعي التّقشّف وترشيد النّفقات، ويرون –مثلا- كيف أنّ رئيسة مالاوي “جويس باند” التي تولّت رئاسة بلادها في الـ7 أفريل 2012م، وورثت أزمة اقتصادية خانقة، كان أوّل إجراء قامت به تقليص راتبها الشهري بنسبة 30%، ثمّ باعت 35 سيارة مرسيدس تستخدمها حكومتها، وباعت طائرة خاصة كان يستخدمها الرئيس السابق، بمبلغ 15 مليون دولار، صَرفته في زراعة البقول لتوفير الطّعام لأكثر من مليون مواطن مالاويّ يعانون الفقر المدقع.

مؤسف حقا أن يتنكّر حكّام المسلمين لدينهم وتاريخهم، ويتخلّوا عن مبادئ الإنسانيّة ومقتضيات المسؤولية، التي أخذ بها حكّام الغرب وبعض حكّام الشّرق في هذا الزّمان، فارتقوا ببلدانهم إلى مصافّ الدول المتقدّمة، بينما عادت أكثر بلاد المسلمين لترزخ في الإقطاعية المقيتة، وتعيش متناقضات تعيد إلى الأذهان ما كانت عليه دويلات الأندلس في عهد ملوك الطّوائف!.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!