الرأي

لويس دي برنجس.. يخطئ ويصيب!

ح.م

يبلغ لويس دي برنجس Louis de Branges من العمر 88 سنة، وهو رياضياتي أمريكي ذاع صيته عام 1984 عندما برهن على صحة مخمّنة الألماني -المعروف بتوجّهه العرقي- لودويغ بيـبرباخ Bieberbach (1886-1982) التي طرحها 1916. وقد واصل دي برنجس بحثه بدون هوادة ساعيا لحل المسألة المعلقة منذ 160 سنة، وهي تلك المسماة فرضية الألماني جورج ريمان Riemann (1826-1866). لكن قبل ذلك النجاح الباهر، كان دي برنجس قد ارتكب أخطاء في براهينه ما كانت لتخدم سمعته العلمية. ألم تقل العرب إن لكل جواد كبوةً؟!

أخطاء الستينيات

التحق دي برنجس عام 1949 بمعهد ماساشوستس للتقانة (MIT) الشهير، وتتلمذ هناك على عدد كبير من مشاهير العلماء. وقد عُيّن أستاذا مشاركا عام 1962 بجامعة بوردي Purdue الأمريكية. ومن الأحداث البارزة التي ظهرت خلال الستينيات من القرن العشرين إعلان دي برنجس وزميله جيمس روفنياك Rovnyak عن حلِّهما لإحدى المسائل المفتوحة في الرياضيات.

ونظرا لأهمية النتيجة فقد انكبّ على دراسة هذا المخطوط عددٌ كبير من الباحثين خلال عدة شهور. وكان مخطوطا صعب الاستيعاب حتى أنه كانت هناك مجموعة من الباحثين تتعاون فيما بينها أثناء قراءة المخطوط لفهم تفاصيله. بل كانوا يضعون، من حين إلى آخر، أيديهم على ثغرات في النص ويجدون معا مخرجًا لها.

وفي نفس الفترة، صدرت نشرة عن جامعة بوردي تحدثت عن المقال تحت عنوان “الإعلان عن حل مسألة رياضياتية شهيرة من قبل عالمين من جامعة بوردي”. وفي مارس 1965 كتب دي برنجس التصويب التالي: “نحن نلغي الآن ما جاء في الإعلان ولا نؤكد أو ننفي النتيجة”. وفي شهر أوت كتب “النتيجة التي أعلنا عنها في بداية الأمر كانت صحيحة”. ولم تنته المفاجآت عند هذا الحدّ إذ ورد في عدد نوفمبر 1965 من مجلة “نوتيسز” Notices الأمريكية تصويبُ خطإ يقول: “الإعلان عن نتيجة دي برنجس تم إلغاؤه بسبب وجود ثغرة في برهان النظرية”!

والطريف أن الناشر العلمي الشهير بول هلموس Halmos (1916-2006) الذي تابع مجريات تقييم هذا العمل تلقّى ذات يوم، إثر تلك التصويبات المتعاقبة، مراسلة من روفنياك، رفيق دي برنجس، قال فيها: “البضاعة التي أرسلنا بها إليكم كانت غير صالحة، وأقلُّ ما يمكننا القيامُ به نحوكم هو أن نردّ إليكم نقودكم”. وقد وجد هلموس ضمن المراسلة صكا بمبلغ ثلاثة دولارات، وهو المبلغ الذي كان هلموس قد دفعه للحصول على نسخة مُعدّلة من مقال دي برنجس وروفنياك!

نجاح الثمانينيات

من المعلوم أن ما يرهق الرياضياتيين كثيرا هو قراءة أعمال زملائهم والاطلاع عليها من أجل تقييمها والبتِّ في صحّة نتائجها. والآن، تصور أنك من أشهر رياضياتي العالم، وأنك تُعدُّ خبيرا دوليا في معضلة علمية تُدعى “مخمنة بيبرباخ”، ووصلك مخطوطٌ يدَّعي صاحبُه البرهان على هذه المخمّنة… وأن هذا المخطوط يقع في 385 صفحة. والمطلوب منك قراءته وإبداء الرأي فيه. وتخيّل أنك انشغلت في الماضي بهذه المسألة سنوات عديدة، وأنك كدت تصل إلى حلها عدة مرات. وأخيرا تصوّر أن صاحب المخطوط رياضياتيٌّ مرموق!

تلك هي المشكلة العويصة التي طرحت للرياضياتي الأمريكي كارل فيتزجرالد FitzGerald عام 1984. أما صاحب هذا المخطوط فهو لويس دي برنجس! هل من المعقول أن يكون دي برنجس قد توصل، فعلا، في مخطوطه إلى حل مخمنة بيبرباخ التي فشل في حلّها الكبارُ والصغار، علما أن دي برنجس قد ادَّعى أنه توصل إلى حلول بعض المسائل في الستينيات، ثم تبيّن في الأخير أن الحلول المقترحة لم تكن سليمة؟

ولذلك لم يكن الأستاذ فيتزجرالد يصدّق ما جاء في المخطوط، لاسيما بعد أن ألقى نظرة سريعة عليه ولاحظ أن صاحبه استخدم في حلّه طريقة معقدة ومعروفة لاحظ جميعُ من استعملها أن حظوظها في بلوغ الهدف المنشود ضئيلة جدا. والغريب أن دي برنجس أرسل مخطوطه إلى نحو 10 علماء آخرين… ولسوء حظه كانوا كلهم يشاطرون رأي فيتزجرالد. ولذا لم يكلفوا أنفسهم عناء قراءة هذا المخطوط الطويل.

لكن دي برنجس كان محظوظا عندما توفرت له إمكانية أداء زيارة علمية لمعهد ستكلوف (Steklov) في سنت بطرسبورغ الروسية. وخلال هذه الزيارة قدم دي برنجس عروضا أمام باحثي المعهد، منهم 3 خبراء في مخمنة بيبرباخ ذائعي الصيت.
وعلى الرغم من أن العلماء الروس لم يكونوا متفائلين بخصوص صحّة هذا البرهان، فقد تابعوا عروض ضيفهم التي دامت 20 ساعة من أجل اكتشاف الخلل المحتمل في البرهان. وفي الأخير ظهر هذا البرهان سليما جدا!

برهان في 385… بل 13 صفحة!

وإثر ذلك راح جميع هؤلاء الخبراء يحاولون اختصار هذا البرهان الطويل، بعد أن تيقّنوا من صحته. وتمكنت الجهود المتضافرة من تخفيض عدد صفحات المخطوط من 385 صفحة إلى 13 صفحة! وعندما نُشرت هذه الصفحات اطلع عليها المعنيون بمخمّنة بيبرباخ عبر العالم… وصدّقوا دعوى صاحب المخطوط ذي 385 صفحة الذي نال، بعد ذلك، شهرة حلم بها عددٌ كبير من علماء الرياضيات!

وقد عقب فيتزجرالد بعد ذلك بالقول: “كنت آمل ألا يكون هذا البرهان صحيحا… فقد أثبت أن مخمّنة بيبرباخ على وشك الحل، وأن الإجابة عنها ستكون بالإيجاب… لم أكن أرغب في رؤية هذه النتائج، التي توصلتُ إليها، تهوى وتسقط سقوطا حرا”!

اهتم دي برنجس بفرضية ريمان منذ الخمسينيات. واستفاد من دعم مادي للبحث فيها تجدّد أزيد من 12 مرة بعد أن تمكّن من إثبات مخمّنة بيبرباخ. وقد نُشر خلال هذه الألفية سلسلة من المقالات بعنوان “برهان على فرضية ريمان”… لكن كل ذلك لم يمكّنه من بلوغ المراد، فالفرضية ما زالت إلى اليوم فرضية!

مقالات ذات صلة