لِيتحمَّل كلٌ مِنَّا مسؤوليته
لا يمكن لأي مِنَّا أن يعتبر نفسه غير مسؤول عما حَدث ويحدث ببلادنا، ناهيك عما سيحدث، الفرق الوحيد بيننا هو في درجة المسؤولية التي نتحملها، وفي الدور الذي كان علينا القيام به أو سيكون في المستقبل… في أي موقع نحن فيه ينبغي أن نعي ذلك، والبداية تبدأ من الذات لتصل في آخر المطاف إلى الآخر السياسي أو غيره، الذي عليه أن يتحمل المسؤولية كاملة بعد أن قَبِلها، وخاصة إذا كان من الذين حرصوا على الوصول إليها أو البقاء فيها في أعلى مستوى.
لاحظتُ بمزيد من الحيرة كيف أن المنطق التبريري أصبح سيّدَ الموقف في حياتنا العامة والخاصة، نادرا ما نُحمِّل أنفسنا مسؤولية ما حدث أو سيحدث، وغالبا ما نُشير بأصبع الاتهام إلى الآخرين، سواء أكان ذلك داخل الحقل المهني الذي ننتمي إليه أو خارجه، في الاقتصاد أو الثقافة أو السياسة أو غيرها، باستمرار، هناك محاولة مِنّا للتنصل من مسؤولية ما يحدث، وإلقاء سريع باللوم على الآخرين لما آلت إليه أوضاع البلاد أو العباد، وكأننا لم نقرأ قط ما جاء في الحديث الشريف “كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته“.
ويتضاعف حجم هذه الظاهرة وثقل تأثيرها في واقعنا الاقتصادي والاجتماعي كلما ارتقينا في سلم الترتيب الاجتماعي والثقافي والسياسي؛ إذ أن مسؤولية الفقراء ليست كمسؤولية الأغنياء، ومسؤولية العلماء أو المثقفين ليست كمسؤولية غير المتعلمين، كما أن مسؤولية الذين يتبوؤون أماكن مرموقة في دواليب الدولة ومراكز اتخاذ القرار من سياسيين وإطارات سامية وموظفين، ليست كمسؤولية العمال البسطاء أو التابعين لسلطة اتخاذ القرار.
إذا اتفقنا على هذه المقدمة يمكننا أن نتفق على النتيجة، لتقديم تصور مستقبلي لتحمّل المسؤوليات في البلاد، كما يُمكن لكل منا أن يحاسب نفسه من الموقع الذي هو فيه، ويُصحِّح مساره، إن تَبين له أن به خطأ لم يكن مُدرَكًا من قبل.
صاحب القرار المركز، والسياسي، والأستاذ والطبيب والموظف والصناعي والتاجر والفلاح والأديب والفنان والرياضي وأي عامل في أي قطاع كان، وفي أي مستوى كان، أصبح من واجبه اليوم أن يَطرح على نفسه سؤالا رئيسا مفاده: وما الذي ساهمتُ به كشخص في تحسين الوضع أو تَردِّيه في المجال الذي أنا فيه؟ هل قمت بما ينبغي أن أقوم به في الوقت المناسب؟ أم أنني تقاعست مثل الآخرين وأحَلْتُ اللوم عليهم كما يفعل كافة الناس؟ ما الدور الذي لعبته بالتحديد؟ وما المساهمة التي ساهمت بها في الحال التي نحن عليها الآن؟ وكيف بي أن أصحح الأوضاع انطلاقا من المحيط الضيق الذي أعيشه قبل أن أنتقل إلى مجالات أخرى أو أصل إلى استخدام عبارات هي أكبر من إدراكي المعرفي أو حدود الحل الذي أرغب فيه؟
في الغالب ما لا نقوم بذلك ونسمح لأنفسنا بالانتقال مباشرة إلى المستوى الأعلى من تحميل المسؤولية للآخرين، لنَصنع منهم مشجبا نعلق عليه كل المصائب والهموم، كما يصنعون منا أرضية يريدونها أن تستوعب فشلهم وسوء تدبيرهم… وعندها بدل أن نُشعل شمعة في الظلام نَزيده عتمة، ونَمنع عن أنفسنا أن نكون نحن بصيص الأمل لبلدنا وللآخرين سواء أكنا في أعلى السلم أو في أولى الدرجات.
وهكذا بدل أن يحدث التفاعل بين مختلف المجالات التي ننتمي إليها، ينغلق كل مجال على ذاته، وينغلق كل فرد على نفسه ونمنع عن أنفسنا الحلول رغم أنها كثيرة.
ويتجلى ذلك بوضوح، في تحوّل كل فئة اجتماعية إلى وحدة بذاتها لا تُعير أية أهمية لحال الآخرين، وكأنها تستطيع أن تعيش من دونهم، أو النجاة بنفسها من غير مراعاة مصيرهم، بل كثيرا ما ينفصل أفراد كل فئة اجتماعية أو حقل مهني ليدافعوا عن مصيرهم في نسيان شبه تام للآخرين، كلٌ يسعى للنجاة من السفينة وكأنهم يئسوا من إنقاذها من الغرق.
وهي الحال التي ينبغي أن تُعالج في المستقبل المباشر، إذا أردنا إعادة البلاد إلى المسار الذي يُنقذها، مما هو مُتربَّص بها من الداخل أو الخارج. نحن لسنا بمنأى عن الهزات أو الاضطرابات في أية لحظة من الآن، إلا أننا مازلنا نمتلك القدرة على الاستباق، وعلينا أن نستفيد منها لتجنب أي انزلاق مرتقب.
إننا إذا استطعنا أن نقتنع بمسؤوليتنا النسبية على ما حدث ويحدث الآن، في كافة القطاعات وعلى كافة المستويات، فسنكون كمن حفِظ الدرس وتمكَّن من الإجابة عن السؤال الاستشرافي والاستراتيجي الأساس: ماذا سنفعل إذا حدث؟
لن نتصارع على كرسي المسؤوليات، ولن نُسارع إلى البحث عن الأسباب للانتقام من هذا أو ذاك، ولن تكون أولويتنا هي كيف نُنجي أنفسنا كأفراد قبل المجتمع والدولة…
وهذه هي الحالة الأمثل التي يمكننا من خلالها أن نتجاوز الظروف الصعبة التي نعيشها اليوم، وأصبح البعض ينطلق منها ليُنذر بأنها إشارة الخطر التي لا مفر منها، بأن مصيرنا سيكون كالآخرين..
فهل نسمح بأن نكون كالآخرين؟ أم سَيَتحمَّل كل مِنَّا مسؤوليته، ونمنع حدوث ذلك؟