الرأي

مات ملحدا

كنت في جنازة أحد الأصدقاء- رحمه الله- وبينما كنا ننتظر الانطلاق نحو المقبرة تقدم مني شاب يبدو من مظهره التّدين، ويتجلى على وجهه انكسار كأنه يحمل هما ثقيلا فحياني تحية من يعرفني، فلما أنكرته قال لي: أنا ابن (فلان).
كنت أعرف هذا الـ (فلان) والتقينا مدة من الزمان ثم افترقنا، وأشهد أن مبلغه من العلم كان طيبا، وأنه كان يؤدي عمله باقتدار، وكان محترما لمن يعملون معه ومحترما من طرفهم، ولم يكن- رغم صرامته- فظا غليظ القلب، ولكن تديّنه كان يبدو ضعيفا..
سألت الشاب عن أخبار والده وأحواله.. فقال لي وهو يغالب عبراته ويظهر تجلّده: لقد توفاه الله.
ترحمت على الرجل، واستغفرت له، وصبّرت الشاب بما يقال في مثل هذه الحالات.. فإذا به ينفجر باكيا حتى لفت أنظار بعض الحاضرين..
هوّنت عليه المصيبة وإن كانت كبيرة، لأنها مصيبة في والد، ولو كانت في ولد لرجوت الله- عز وجل- أن يرزقه غيره.. وقلت له ما قاله أبو منصور الثعالبي في كتابه “تقبيح الحسن وتحسين القبيح”، من أن الميّت إن كان محسنا فهو في روضة يحبر، وإن كان مسيئا فقد يكون موته خيرا له مخافة أن يرتكب كبيرة من الكبائر…
ازداد بكاء الشاب، وصعّد زفيرا أحسست حراراته، ثم كفكف دموعه وقال لي في لهجة عتاب: لقد قصّرتم- يا أستاذ- في حق والدي..
استغربت كلام الشاب، ونفيت أن يكون قد بدا مني “تقصير”.. فقاطعني قائلا: لقد مات أبي ملحدا، ولو نصحتم له لربّما أنقذتموه من إلحاده.
أخبرت الشاب عن جهلي بإلحاد والده، وما كان هو مظهرا لهذا الإلحاد، أو مجاهرا به.. ولا نقول إلا ما قال سيدنا عيسى- عليه السلام- لله- عز وجل- عمن كفر: إن تعذبهم فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنك غفور رحيم”.
ثم واسيت الشاب بأن أبا الأنبياء سيدنا إبراهيم عليه السلام مات والده على الكفر، فلا تذهب نفسك حسرات على والدك، ولعل مسئوليتك وإخوتك- إن كان لك إخوة- أكثر مسئولية.. وإن كان “لا تزر وازرة وزر أخرى”.
فيا أيها المغرورون بشيء من “الشهرة الروائية”، ومن المكانة الاجتماعية، ومن تصدر وسائل الإعلام، وبشيء من “وسخ الدنيا”، اعلموا أن كل ذلك زائل، وسيأتي يوم تحسبونه بعيدا وهو قريب تندمون فيه على خوضكم ولعبكم، وصدق محمد إقبال في قوله:
إذا الإيمان ضاع فلا أمان ولا دنيا لمن لم يحي دينا
ومن رضي الحياة بغير دين فقد جعل الفناء لها قرينا

مقالات ذات صلة