الرأي

ماذا بعد المصالحة الوطنية؟

ح.م

قبل يومين، عاش الجزائريون مع الذكرى الثالثة عشرة لتدشين عهد السلم والمصالحة الوطنية، وتشاء الأقدار أن يحتفي الشعب الجزائري بنعمة الأمن والأمان بينما تحترق أوطانٌ عربية شقيقة تحت نيران الفتنة، وتترنح أخرى في أتون التوترات السياسيّة الحادّة، ليزيد بذلك إحساسهم بقيمة المنجَز الحضاري الذين صنعوه على بركٍ من الدماء وقممٍ من الأشلاء، رغم كل النقائص التي تشوب المسار، والسهام التي نالت من المصالحة.

صحيحٌ أن مشروع المصالحة لم يكتمل ولم يصل بعدُ مداه السياسي والاجتماعي، لكنّ الخيار كان صائبا واستراتيجيّا، وبفضله تعافت الجزائر من جراحها الغائرة وكفكفت دموعًا جرت كالأنهار، لتطوي بذلك صفحة حمراء في تاريخها الحديث، مستأنفةً شوطا آخر للتعايش والبناء، غير أن التحدّي الذي يواجه المجتمع اليوم هو التخلّص من الآثار المترتّبة على عشريّة العنف والسلاح والقتل الهمجي، بعدما تحوّل إلى سلوك يومي في حياة قطاع من الجزائريين، حتّى صار النقاش في دوائر الإعلام والمؤسسات الرسمية والمدنية متمحورًا حول العنف الاجتماعي في الشارع والسوق والأماكن العامّة ومدرَّجات الملاعب وساحات المدارس والجامعات، بل إنه اقتحم حتى باحات المساجد!

لا شكّ في أنّ تنامي حالة العنف هو انعكاسٌ بشكل ما لمخلفات فترة الإرهاب التي هانت فيها الأرواح البشريّة، وقد يعبر في جزء منه عن الخصائص النفسية للشعب الجزائري، لكن تبرير ذلك الكمّ الهائل من السلوك العنيف في الوسط الاجتماعي العامّ هو هروبٌ عبثي من مواجهة الواقع، والحال تقتضي طرح الأسئلة الجديّة حول تفشّي هذه الظاهرة الخطيرة، للبحث عن حلولٍ ناجعة، ضمن مقاربات شمولية تأخذ في حسبانها كافة المسبِّبات والخلفيات.

لا يُكابر أحدٌ اليوم في أن الجزائر تُحصي أرقامًا رهيبة في جرائم القتل والتعدّي الجسدي والاغتصاب والاختطاف وأحداث العنف الجماعي والسرقات وغيرها، وكلّها نتاج تراكم من المشاكل الاجتماعية والأسريّة والنفسيّة والماديّة والثقافية والتعليمية والأمنية والمهنيّة وحتّى الإدارية كذلك، و”خارطة طريق” الحّل يجب أن تعْبُر من جميع تلك الممّرات الإجبارية، أمّا مسكّنات الحلول الترقيعية والجزئية فلن تجدي نفعًا أمام سرطان يتغذّى من الأورام الخبيثة للآفات الأخلاقية والتكنولوجيّة والضغوط اليوميّة التي يكابدها جزائريون يعيشون تحت وطأة البطالة القاتلة والتسرُّب المدرسي والتفكُّك الأسري والمخدرات والمهلوسات والبيروقراطيّة الجائرة والمحسوبيّة والطبقية وغيرها من القنابل التي تلغّم حياة المجتمع، لتجعله قابلاً للانفجار في أيِّ لحظة، سواء بشكل فردي أم في صورة جماعيّة.

إذا لم نتجاوز قريبا حالة العنف التي تحوَّلت إلى سلوك جزائري بامتياز، لأسباب موضوعية مهما بلغت إدانتُنا للتصرف المشين، فإنّ المصالحة ستبقى منجزا سياسيّا محضًا في أحسن الأحوال، بل ربّما لا يعدو عند البعض أن يكون مجرّد معالجة أمنية لوضع متشابك، طالما أنّ الناس لا تأمن في كنفها على أرواحها وذريتها وأموالها وممتلكاتها، كأنّي بالجزائر خرجت من حرب سلاح فوق الجبال إلى معارك عصابات من نوع جديد في الشوارع!

لقد أنجزنا المصالحة على عيوبها السبعة، وهي مكسبٌ للانطلاق مهما قيل فيها وعنها، لكنّنا لم نصل حتى الآن إلى حياة الوئام والعيش في سلام، وذاك هو الرهان القادم الذي يفرض الأولوية والمسؤولية المشتركة.

مقالات ذات صلة