الجزائر
في ذكرى أحداث 5 أكتوبر 88

ماذا قدّمت “التعددية الحزبية” للجزائريين طيلة 29 سنة؟

الشروق أونلاين
  • 9180
  • 27

تمر اليوم الذكرى الـ 29 لانتفاضة أكتوبر، ومعها يستحضر الجزائريون حصيلة نحو ثلاثة عقود من التعددية بحلوها ومرها. 29 سنة مرت ومع ذلك لا يزال الجزائريون يرددون أسئلة على شاكلة: هل تلك الأحداث كانت نعمة أم نقمة؟ الإجابة عن هذا السؤال يمكن العثور عليها عبر بوابة تقييم ما ربحه الجزائريون من حقوق وحريات طيلة هذه السنوات، فالسلطة تقول إنها أعتقت الحريات ورخصت بالتعددية السياسية، غير أن المعارضة ترفض ذلك وتشدد على أن التعددية لا تعني حرية إنشاء الأحزاب، بل تتعدى إلى إخضاع الممارسات للقانون، في حين تحمل السلطةُ المعارضةَ مسؤولية عدم الارتقاء بالممارسة السياسية. فهل نجحت كل من السلطة والمعارضة في اختبار التعددية؟ وماذا تحقق للجزائريين خلال هذه المرحلة؟ هذه الأسئلة وأخرى سيحاول “الملف السياسي” لهذا العدد الإجابة عنها.

 

لماذا أخفق الجزائريون في تحقيق الوثبة؟

أحداث أكتوبر.. الذكرى والعبرة

مرت 29 سنة على أحداث الخامس من أكتوبر 1988.. وإن اتفق الجميع على أن ذلك التاريخ كرس تحولات غير مسبوقة نقلت الجزائر من مرحلة إلى أخرى، إلا أن الخلاف ما زال قائما بين بعض النخب السياسية، حول توصيف تلك الأحداث وقراءة آثارها على أمن واستقرار البلاد.

وهكذا هللت الكثير من النخب السياسية التي كانت تعيش على هامش النظام وحتى من داخله، لانتفاضة أكتوبر وهللت بقدومها كمخلص من الأزمة السياسية، واعتبرتها محطة فارقة فصلت بين الاستبداد والحرية، ونقلت البلاد إلى نور الانفتاح والتعددية التي تنعم بها الشعوب الغربية.

غير أن أصحاب هذا الطرح سرعان ما تفاجؤوا بتجليات الواقع، فالتحولات السياسية التي بدأت بإقرار دستور جديد في 23 فيفري 1989، أفرزت أحزابا بلغ عددها الستين، غير أن الحزب (الأفلان) الذي كان مثار غضب المنتفضين قبل 29 سنة، لا يزال هو المهيمن على المشهد السياسي، أما شريكه التجمع الوطني الديمقراطي، وإن جاء إلى الوجود في عهد التعددية، إلا أنه يتقاسم مع الحزب الواحد سابقا، الكثير من القناعات والتوجهات والممارسات، بل ويعتبره الكثير ربيبا للسلطة.

أما المعسكر الآخر فمازال يعتقد أن أحداث أكتوبر قوضت استقرار الجزائر، ويستدلون على ذلك بالأزمة التي دخلتها البلاد بداية من مطلع التسعينيات، ويقول بعضهم إن التعددية السياسية التي لم تجلب الاستقرار إلى البلاد بعد ما يقارب ثلاثة عقود، فلا يمكن اعتبارها انفتاحا.

وينطلق هؤلاء من قناعة مفادها أن المطالب التي رفعت من قبل الغاضبين في انتفاضة أكتوبر، لم تكن سياسية مثلما يقول الطرف الآخر، بقدر ما كانت اجتماعية حركتها الأزمة الاقتصادية، جراء انهيار أسعار النفط في تلك الفترة، ما أدى إلى حدوث ندرة غير مسبوقة، زادت من تفاقم الوضع.

هذا التباين في قراءة الخلفيات وتوصيف الأشياء جعل كل طرف ينظر إلى الآخر بعين الريبة، وهو ما خلق حالة من عدم الثقة بين الطرفين، كان من نتائجها سيطرة التشكيك على العملية السياسية وباتت مواعيدها الانتخابية محط توظيف مصطلحات يفترض أنها لا تتماشى والمرحلة التي دخلتها البلاد، مثل “التزوير” الذي يعتبر نقيض الشفافية.

وبالمقابل، لم يبرح الكثير من الوجوه السياسية التي حكمت أو أسهمت في حكم البلاد قبل مرحلة التعددية المسؤوليات السامية في الدولة، وهو ما غذى خطاب المعارضة القائم على اتهام السلطة بافتقادها إرادة إقامة نظام ديمقراطي تعود فيه الكلمة الأولى والأخيرة إلى الشعب.

من جهتها؛ السلطة التي لم تتخل عن الكثير من ممارساتها القديمة، لم تتوقف عن إشهاد الرأي العام في الداخل والخارج على المعارضة، من خلال تبني الكثير من مطالبها لا سيما تلك المتعلقة بالمواعيد الانتخابية باعتبارها ساحات النزال المباشرة بين الطرفين، مثل هيئات الرقابة على الانتخابات، ودعوة الملاحظين الأجانب لمراقبة الانتخابات.

والواقع أن المستوى الذي وصلت إليه الممارسة السياسية وبات الجميع متفقا على رداءته، لا يتحمله طرف لوحده، بل السلطة والمعارضة معا، ويكفي لتبرير هذه القراءة، بقاء غالبية الجزائريين بعيدا عن العملية السياسية ومن ثم العملية الانتخابية، التي أصبحت هاجس الطرفين معا، بسبب العزوف عن الصناديق الذي وصل مستويات قياسية في الاستحقاقات الأخيرة.

ويؤشر هذا المعطى على أن المواطن، إما أنه لم يعد تستهويه البضاعة التي يسوقها السياسيون (60 حزبا)، أو أنه لا يثق في وصول صوته إلى الجهة التي يختارها، وهذه قضية أخرى أعمق وأخطر، لأنه من غير المقبول أن تعجز السلطة عن ضمان الشفافية، مثلما هو من غير المعقول أن تفرط المعارضة في حماية حقها.

 

الباحث المحلل السياسي محمد أرزقي فراد ” لـ”الشروق”:

أحداث أكتوبر أفرزت أحزابا ولم تكرس ديمقراطية


 29 سنة مرت على أحداث أكتوبر 1988، ماذا أضاف الانفتاح السياسي إلى التعددية؟

لا شك في أن انتفاضة 5 أكتوبر1988م، تشكل منعطفا في حياة الجزائر المعاصرة. لكن قبل تفصيل الحديث فيها، علينا أن نتساءل عن العوامل التي أدّت إلى ميلاد هذا “الحدث”، هل جاء نتيجة صراع بين أجنحة النظام السياسي، أي بين حزب جبهة التحرير ورئاسة الجمهورية وتوابعها، من أجل الانفراد بزمام الحكم؟ أم إنه جاء نتيجة تفاعل عوامل سياسية، اجتماعية، اقتصادية في البلد لعقود طويلة؟

يرى بعض المحللين المتشائمين أن أغلب المكاسب المحققة بعد أحداث أكتوبر تلاشت. من يتحمل المسؤولية: السلطة أم المعارضة أم كلاهما؟

 من السذاجة اختزال هذه “الانتفاضة الشعبية” في الصراع بين “جبهة التحرير” ورئاسة الجمهورية وتوابعها، وأن طرفا منهما ألقى بفكرته إلى الشارع فاحتضنها الشعب. إن هذه القراءة تنمّ عن الاستخفاف بإرادة الشعب في صناعة التغيير، وتعكس مدى تجذّر الاستبداد في عقول الحكام الذين لا يقيمون وزنا لما يسمى بـ “التراكم النضالي”. وكأنّي بأصحاب هذه القراءة المقتضبة يريدون إقناع الرأي العام بأن “حادثة المروحة” هي السبب الوحيد في احتلال فرنسا الجزائر! والحق أن انتفاضة 5 أكتوبر هي نتاج تراكم نضاليّ طويل صنعته أطياف سياسية فاعلة، ونتاج تذمّر شعبيّ إزاء الإخفاقات التنموية المتلاحقة، حيث لم يعد مبرّر “أعداء الداخل والخارج” يقنع الجيل الجديد، فقامت مظاهرات صاخبة في العديد من المدن. وهناك (الربيع الأمازيغي/1980)، تلاه تأسيس رابطة حقوق الإنسان سنة 1985، ثم اجتماع لندن في ديسمبر 1985 جمع قطبي المعارضة؛ الرئيس أحمد بن بلة وحسين آيت أحمد، تمخّض عنه نداء سياسيّ قويّ موجّه إلى الجزائريين يهيب بهم لبناء الديمقراطية، وممّا يؤكد هلع النظام السياسيّ إزاءه، أنه التجأ إلى اغتيال مهندس اللقاء علي مسيلي المناضل في الأفافاس في أفريل 1987 بباريس. إضافة إلى نشاط التيار الإسلامي القويّ في عقد الثمانينيات، الذي أقلق السلطة، فالتجأت إلى اعتقال بعض رموزه. وهكذا يتجلى بوضوح أن الساحة كانت تعجّ بنشاط سياسيّ سريّ يستهدف تغيير النظام القائم.

تحصي الجزائر اليوم 60 حزبا، لكن غالبيتها على الهامش.. لماذا فشلت هذه الأحزاب في تغيير المعادلة السياسية؟

يعتبر 5 أكتوبر 1988 بمثابة منعرج سياسيّ مهم في تاريخ الجزائر المعاصرة، وضع حدا لنظام الحزب الواحد، وفصل بين الدولة والحزب، وأنهى عضوية الجيش الوطنيّ الشعبيّ في اللجنة المركزية لحزب جبهة التحرير، حدث ذلك بموجب دستور 23 فيفري 1989 الذي فتح نافذة على التعددية السياسية باحتشام، من خلال المادة 40: “حق إنشاء الجمعيات ذات الطابع السياسي معترف به”.

 لماذا يبقى الجزائري بعيدا عن السياسة والسياسيين؟

كان حدث 5 أكتوبر 1988 بمثابة “بارقة الأمل” للشعب المثقل بسنوات الأحادية، كان “ربيعا جزائريا ” تزامن مع ربيع أوروبا الشرقية، كان ربيعا رائدا في العالم العربي، اشرأبت إليه الأعناق تنتظر ميلاد أوّل نظام ديمقراطي، بعد فشل تجربة الدولة الوطنية “المعسكرة” في تحقيق آمال العرب في الحرية والرقيّ والتقدم. وكان من الممكن أن ينجح “الربيع الجزائري” كما نجح ربيع أوروبا الشرقية، في وقت مبكّر لو توفّرت الإرادة السياسية، وهي شرط ضروري لكلّ تحوّل سياسيّ صادق.

كيف السبيل إلى إقناع المواطن بالانخراط في العملية السياسية، ومن يتحمل مسؤولية ذلك؟

غياب الإرادة السياسية حال دون اتخاذ الإجراءات الضرورية لمرافقة دستور 1989، التي تجعلنا نتجنب منطق “الطفرة” في التغيير، وتلقي بظلالها التنويرية على المنظومة التربوية والمجتمع المدني والنخبة والإعلام، من أجل تحصين الشعب بالثقافة الديمقراطية. ولا شك في أن المعارضة كان لها نصيبها من المسؤولية في هذا الإخفاق، حين اختزلت الديمقراطية في تأسيس أحزاب سياسية ودخولها مجال المنافسة على عجل، دون المرور بمرحلة انتقالية سلسة. ومهما يكن الأمر، فإنّ انتفاضة 5 أكتوبر 1989 قد فتحت الباب على مصراعيه أمام التحوّل الديمقراطي، الذي يحتاج تحقيقه إلى تضافر جهود أجيال عديدة، وقد خطونا الخطوة ومن سار على الدرب وصل.

 

رئيس المجلس الشعبي الوطني سابقا عبد العزيز زياري لـ “الشروق”:

مطالب 5 أكتوبر اجتماعية والبعض ألبسها ثوبا سياسيا

اليوم يحتفل الجزائريون بالذكرى الـ 29 لانتفاضة الخامس من أكتوبر، ما الذي أضافه الانفتاح السياسي إلى التعددية في رأيكم؟

مطالب 5 أكتوبر لم تكن لها علاقة إطلاقا بالتعديدية السياسية أو الانفتاح الإعلامي، بل سببها الرئيس الوضع المعيشي المتردي، ومطالب رفعت لتحسين الأوضاع، وهذا الأمر لا يجب أن ننساه، لكن وقتها تكونت قناعة لدى السياسيين أن الحل يكمن في الانفتاح السياسي والإعلامي، لأن الحزب الواحد لم يستجب لتطلعات كافة الشعب الجزائري، وأنه يتوجب على الجزائر المرور إلى مرحلة تاريخية ثانية وهي عهد الانفتاح وتقبل الرأي الآخر، وفتح الباب أمام الصحافة وحرية التعبير ضرورة حتمية، أما عن سؤالكم عما أضافته التعددية إلى المشهد، فإننا يجب أن نعترف بأن المرحلة الانتقالية شابها الكثير من الاختلالات، لأن ظروف حصولها لم تكن متوفرة، حتى الإرادة السياسية لم تتجسد، لأن التعديدية تعني الصدق في القرارات وليس أن تكون شعار وديكورا، ولذا وبعد مرور 29 سنة من أحداث أكتوبر، من الصعب إصدار أحكام بأن التعددية فشلت في تغيير سياسات البلاد، لكن علينا أن نتوقف جيدا عند هذه المرحلة لإعادة تقييمها واستخلاص العبرة وعدم تكرار نفس الأخطاء التي وقعت، لأننا اهتممنا بالشكل أكثر من المضمون.

رغم رفضك إصدار أحكام مسبقة، لكن العديد من المحللين يعتبرون أن الجزائر لم تستفد من تلك المرحلة، والمكاسب التي تتحدث عنها السلطة، بعد أحداث أكتوبر ضاعت بعد ذلك؟

لا يمكن إنكار كل ما حصل، وما تحقق في نفس الوقت.. فأحداث أكتوبر 88 فتحت الباب أمام نشاط الأحزاب السياسية وحرية التعبير أمام الصحافة، وربما المتشائمون من المكاسب التي تحققت يقصدون التلفزيون العمومي، الذي يظل محل انتقاد العديد من الأشخاص، لكن لا ننسى أن هناك صحفا ووسائل إعلام تتحدث بكل ديمقراطية، وهناك فرق لا يجب إنكاره، أما الأحزاب السياسية فهي موجودة في الميدان، وقضية تمثيلها فهي راجعة إلى التشكيلات السياسية، التي يجب عليها أن تكون لنفسها قاعدة شعبية. وأريد أن أضيف شيئا وهو أن النقطة التي أهملت في المرحلة الانتقالية، هي الإصلاحات الاقتصادية وكذا إبقاء اقتصاد البلاد تابع إلى المحروقات.

بالحديث عن الأحزاب، تحصي الجزائر اليوم 60 حزبا سياسيا، لكنها تبقى غير فاعلة ولم تؤسس لعملية سياسة تسهم في تغيير الأوضاع؟

يبقى تمثيل الأحزاب نسبيا، مهما كانت قوة تأثيرها في الساحة السياسية، لكن عدة أحزاب لم تعد قادرة على مواكبة الأحداث، وتمثيل هيئات داخل المجتمع، بسبب مشاكلها الداخلية وحرب الزعامة والبحث عن المصالح، وتحول عدد كبير منها إلى جمعيات خيرية، وهنا يجب على الجميع تحمل مسؤولياته الكاملة بدل التنصل منها، وصب الزيت على النار، لأن العمل الحزبي نضال وتضحية وليس مجرد تصريحات ومعارضة قرارات فقط دون إيجاد حلول، لأن القاعدة الديمقراطية لا تبنى بهذا الشكل.

لماذا يبقى الجزائري بعيدا عن السياسة والسياسيين، في دولة تعيش تعددية سياسية؟

الكلام الذي نسمعه من بعض الأحزاب سواء تلك المتموقعة في الموالاة أم تلك التي اختارت المعارضة، لا يستجيب لانشغالات المواطنين ولا نرى اقتراحات واقعية للمشاكل التي يتخبط فيها المواطن، خاصة في القضايا الحساسة، كالصناعة، والفلاحة والتجارة، ولم تنجح العديد من الأحزاب في تشكيل قاعدة حولها، وبات الاهتمام بالمواطن يقتصر فقط على المواعيد الانتخابية، والمزايا التي يوفرها المنصب، وهذا الأمر أعتقد أنه أثر بطريقة كبيرة على المعادلة السياسية في بلادنا، والمواطن الجزائري واع بالرغم من عدم إبدائه اهتماما مباشرا بالقضايا السياسية، ووصل إلى قناعة مفادها أن دور المتفرج أحسن موقعا له، ولا يريدون الدخول في صراعات، تلعب على أعلى مستويات بين فاعليها، وهذا ما جعل الجزائري يبتعد بعض الشيء عن العملية السياسية إلى حين. لكن العمل الحزبي مهم جدا في العملية الديمقراطية من أجل الابتعاد عن بعض الأمراض مثل العنف والتشاؤم.

مقالات ذات صلة