ماذا يريد العرب منا وماذا نريد منهم؟
قصة الجزائر مع البلدان العربية أكثر من مثيرة، وحَّدَتهم بثورتها عندما ناصرتها الشعوب بلا حدود ودعمّها الملوك والأمراء والرؤساء بلا استثناء. وفرَّقتهم بمواقفها عندما كانت مع فلسطين ظالمة أو مظلومة وكانوا منقسمين عليها مُقسِّمين لها، مُتقاسمين للأدوار تجاهها.. وهي اليوم مَحطّ أنظارهم، وقد أحاط بهم الإرهاب من كل جانب، وغرق الكثير منهم في وحل النزاع حول السلطة، وباتت مخططات التقسيم أكثر من واضحة على الميدان.. ما الذي يريدونه منها وما الذي يمكن أن تريده منهم؟
يزورها الأمين العام للجامعة العربية في هذا الإطار طالبا أن يتحد العرب ليس لبناء قوة اقتصادية أو موقف سياسي مشترك تجاه قضايانا المصيرية، إنما لمكافحة الإرهاب.. للمشاركة في إطفاء النار. انتظر الأمين العام للجامعة العربية حتى تدركه النار بداره لكي يبحث عن من اعتقد خطأ أنهم رجال الإطفاء. لعله أو غيره لم يكونوا يتوقعون أن صب النار التي أشعلوها في فترات سابقة في أكثر من منطقة سيَطالهم شررها ذات يوم، وأن المواقف التي اعتقدوا أنها غير صحيحة للدبلوماسية الجزائرية أثبتت الأيام أنها الأقرب إلى الخيار السليم.
تاريخ مواقف الدبلوماسية الجزائرية في المنطقة يؤكد ذلك:
1 ـ عندما اشتعلت الحرب بين العراق وإيران، وتلك كانت البداية، صبّت الجامعة العربية مزيداً من الزيت على النار، وكانت أداة طيّعة في يد الملوك والرؤساء لإنجاز حرب بالوكالة ضد بلد كان ذنبه الوحيد أنه أطاح بدكتاتورية الشاه وأقام الحكم الذي ارتضاه لنفسه. لم تكتف الجامعة العربية بدعم صدام حسين ضد الثورة الإسلامية الناشئة في إيران بل كانت الإطار الذي تحرّك “العرب” من خلاله لمواجهة ما اعتبر آنذاك خطرا داهما وتصديرا للثورة خارج حدودها. لم يكن شعار السنة ضد الشيعة مرفوعا بالحدة التي نراه بها اليوم بعد. كانت المسألة متعلقة بالخوف من ثورات إسلامية بَدَت تلوح في الأفق في أكثر من مكان جراء بلوغ الصحوة ذروتها في تلك الفترة من حيث الإعجاب الشعبي والتعلق بحلم العودة إلى الإسلام هو الحل.
لم تكن الجزائر لتقبل بهذا التوجه. رفضت الحرب التي شنّها العرب على الحكومة الإسلامية الناشئة، واستغلت عمقها التاريخي مع العراق، وعلاقتها الجيدة مع الجمهورية الإسلامية الصاعدة، لكي تطفئ تلك النار المشتعلة. وقاد وزير خارجيتها التاريخي محمد الصديق بن يحي الدبلوماسية السرية بين البلدين. ولما اقترب من الحل، أُسقطت طائرته فوق الأراضي العراقية لكي تستمر الحرب. ودَفعت الجزائر الثمن غاليا لذلك. وطَوَت الملف وهي على دراية تامة بمن أسقط الطائرة. وكانت تلك من تضحياتها الكبيرة لأجل العرب.
وانتهت الحرب على الجمهورية الإسلامية الناشئة بمئات الآلاف من القتلى، ولم يسقط نظام حكمها بل ازداد تماسكا وقوة، بل الذي سقط هي العلاقات العربيةـ عربية والجامعة العربية.
2 ـ لم تمرّ على نهاية أشرس حرب في المنطقة بضعة أشهر حتى بدأ صدام حسين يعلن أن حلفاءه بالأمس يمنعون عنه المال والسلاح ويكيدون له في الخفاء لإضعافه تمهيدا للإطاحة به من خلال التخفيض المستمر لأسعار البترول، ولم يتردد كثيرا في إعلان الحرب عليهم بغزو الكويت التي كانت حليفته الأولى بالأمس القريب.
ووقفت الجامعة العربية هذه المرة ضده، ووقفت الجزائر ضد الموقف الرسمي للجامعة العربية.. لا مجال لقبول قوات أمريكية وأجنبية لتحرير الكويت، نعم صدام معتد، ولكن يمكن إخراجه بوسائل أخرى، من خلال الدبلوماسية، وتحركت في هذا الاتجاه، وتطورت الأحداث إلى أن قبل صدام حسين بالانسحاب غير المشروط، إلا أن آلة الحرب كانت قد تحرّكت وتم تحطيم ما بقي من جيشه وهو يعود القهقرى.
وكانت المرة الثانية التي أكدت الأيام أن الدبلوماسية الجزائرية كانت فيها على حق.
3 ـ وجاءت الجولة الثالثة عندما قرر الأمريكان، من غير انتظار شرعية الأمم المتحدة فما بالك الجامعة العربية، غزو العراق والإطاحة بصدام حسين، ولم تعارض الجامعة العربية ذلك، وعارضت الدبلوماسية الجزائرية هذا الغزو ونبّهت إلى خطورته وإلى تداعياته ومن بينها ما نراه اليوم من إرهاب ومن “داعش“. إلا أن آلة الأمريكان كانت قد تحرّكت بمباركة كثير من الملوك والأمراء وحلفائهم وأتباعهم من الرؤساء، وتم احتلال العراق وأُسر الرئيس صدام حسين، ثم شنقه يوم عيد الأضحى بعد محاكمة صورية، في إذلال شبه تام لما بقي من زعماء عرب وجامعة عربية وأمة إسلامية.
وتفاقم الوضع بعد إعدامه، وبدأ التباكي من قِبل العرب على سيطرة الشيعة على العراق، ونسى هؤلاء أن صدام حسين الذي اعتقلوه وشنقوه وحطَّموا جيشه وحزبه وشردوا أنصاره في كل مكان، لم يكن شيعياً، بل من أكبر مضطهِدي الشيعة عبر التاريخ وأكثرهم قتلاً لعلماء هذا المذهب وقياداته.
وتأكدت صحة موقف الدبلوماسية الجزائرية مرة ثالثة.
4 ـ وجاء “الربيع العربي” الذي ما لبث أن تحوّل إلى شتاء دموي، وبدل أن تقف الجامعة العربية باعتدال إلى جانب الدولة الوطنية، اتبعت موقف الملوك والأمراء، فباركت تسليح وتمويل المعارضة في سورية ووافقت على منحها مقعد الدولة، ووقفت إلى جانب الناتو للهجوم على ليبيا، وكانت غطاء لإغراقها بالمال والسلاح، واعتبرت موقف الجزائر المخالف لكل هذا غير سليم، بل حاولت عزلها عن الساحة العربية إلى أن حدث ما حدث بمصر من انقلاب واضح على الشرعية، وتحويل رئيس منتخب إلى “إرهابي” وجماعة قانونية إلى “جماعة إرهابية” وتوفير للمناخ الملائم للإرهاب… ثم جاءت لتطلب حلولا مشتركة لإطفاء النار..
يبدو أن هذا ما أصبح يريده العرب من الجزائر.. وفقط هذا.. ونحن لا نريد منهم سوى أن يعيدوا قراءة مواقفنا السابقة، أو يتركوننا وشأننا ما دمنا في نظر بعضهم غير عرب أو لا نُفكّر مثل العرب.