-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

“مالك بن نبي”: مراكز التفكير أولا!

د. طه كوزي
  • 229
  • 0
“مالك بن نبي”: مراكز التفكير أولا!

كان “مالك” يرى طيف ماسينيون في كل مكان، فقد كان يتلمّس خطط “المكتب الثاني” وخيوطه العنكبوتية في كل شارع وزقاق، وكان يتحسّس مُلابسات جريمة “ماسينيون” وأدلّة مروره في كثير من تفاصيل حياته القلقة المتشنّجة في وظيفته الإدارية بالبلدية، ومقالته الصحفية، ومحاصرة مصدر القوت والاسترزاق، مرورا بعلاقته بمختلف الأطياف الفكرية والسياسية التي عاصرها…
لقد عاش “مالك” حياته، وهو يعرف تمام المعرفة، أنه بحكم موقفه الفكري، وموقعه الثقافي، ووقفته الإستراتيجية في ساحة الصراع الفكري، لا يواجه مستعمِرا ممْتشِقا دبابة، ومدجّجا برشاش، بل مطبخا من مطابخ الفكر وجيشا عرمْرما من المفكّرين، فالمستعمِر لا يواجه المتحرر منه إلا بأسلوبه وأدواته التي يتخذها منصة للتحرر والاستقلال…
لم يستطع مالك بن نبي أن يتجاوز الحالة الفردية في الإنتاج الفكري ولعل الظروف الاستعمارية الخانقة من حوله، وبعضا من حدته فكره التي لا تخلو من الحدية في بعض الأحيان جعلته غير قادر على الاجتماع والتآلف مع ثلة تواجه ماسينيون بسلاحه، ليؤسس من خلالها بنية فكرية اجتماعية جماعية لإنتاج الأفكار والتأثير بها في بناء نموذج الحكم، والتربية، والتعليم، والاقتصاد، والاجتماع، لأن العقل المفرد لا يطيق ولا يتحمل مهمة معقدة من هذا القبيل… لكنه قدم للفكر الإسلامي المعاصر خدمة جليلة أن جعل التحضر والتخلف، الاستعمار والانكسار مشروطا بميلاد مطابخ الفكر، ومراكز التفكير…
إن المواجهة اليومية التي عاشها “مالك بن نبي” في مواجهة “المكتب الثاني” “لماسينيون” وأزلامه، وبالرغم من أنها سببت “لمالك” بعض المضاعفات الذهنية والنفسية التي جعلته يفسر كل عفن في حياته مرتبطا ارتباطا عضويا بخطط ماسينيون، إلا أنّ تلك المناورات المعرفيّة الذهنيّة مكَّنتْ “مالك بن نبي” من أن يُعيد “تعريف الاستعمار”، وتحديد “قواعد الاشتباك” معه، وتحْيين خصائص ميلاد المجتمعات من خلال معيار حَدّي وجوهري اسمه “مراكز التفكير”، و”مطابخ الفكر”.

الاستعمار في نواته الداخلية “مطبخ تفكير”:
من المفاهيم المركزية التي أسس عليها “مالك بن نبي” فكره ومنهجه ذلك التشخيص الدقيق الذي أبانه لنا من أن مواجهة الاستعمار لا تخلو من صراع فكري يمثل ساحة جوهرية من المواجهة والاشتباك في طريق التحرر، وقد أنبأنا “مالك” أن غرفة العمليات العسكرية التي يديرها المستعمر لا تقل كفاءة وجاهزية وفعالية من غرفة عمليات فكرية ومعرفية يديرها، ليكون بن نبي من الأوائل الذي يسربون للنبهاء في العالم الإسلامي هذا التشخيص الدقيق وهو يقول:
«سوف يواصل الاستعمار في الوقت نفسه حربه ضد الفكرة المجردة بوسائل ملائمة فيها مرونة أكثر، ويستعين من أجل ذلك “بخارطة نفسية العالم الإسلامي”: وهي خارطة تجرى عليها التعديلات الضرورية في كل يوم، يقوم بها “رجال متخصّصون” مكلّفون “برصْد الأفكار”، إنه يرصُد خططه الحربية ويُعطي توجيهاته العملية على ضوء معرفة دقيقة لنفسية البلاد المستعمَرة، معرفة تسوغ له تحديد العمل المناسب لمواجهة الوعي في تلك البلاد… وفي مستوى أدنى نراه يستغل جهل الجماهير لينشئ حول الفكرة منطقة فراغ وصمت لعزلها عن المجتمع… وهكذا يفعل حتى يصل إلى أحط مستوى ليستخدم سلاح المال، ليكوّن لنفسه بهذه الوسيلة صداقات أو بلغة الحرب اتفاقات في البلاد المستعمَرة، تساعده على توجيه هجْمات مُحْكمة في الوقت المناسب على بعض القطاعات من الجبْهة الداخلية».
لقد اتّضح للمفكر مالك أن الاستعمار في بُنيته الداخلية، وفي نواته الجوهرية هيئةٌ من المتخصصين ورجال أكفاء لا يشغلهم هَمٌّ إلا رص الأفكار ورسم الخطط، ورصد التغيرات النفسية والمزاجية التي تمور داخل المجتمعات وهذا هو المعيار الفاصل بين دولة مستعمِرة وأخرى مستعمَرة، فمن امتلك القدرة على قراءة الآخر نفسيا، واجتماعيا، وفكريا: استعمرَه وبات قادرا على التحكم فيه، وإدارة أفكاره وانفعالاته، واستثارة رغباته ونزواته…

مركز التفكير: نقطة الانطلاق..
يدرك “مالك” أن المنزلق الذي تدحْرجْنا منه إلى هوّة التخلُّف والاستعمار السحيقة الكئيبة تكمن في غياب “مراكز التفكير”، وعدم قدرة المستعمَرين على لملمة أفكارهم، وتجميع أنفاسهم، ورص صفوفهم في بنية اجتماعية وشكل تنظيمي معرفي يسمح لهم بمواجهة الاستعمار الذي يترصدهم في كل لحظة وثانية، فيواجهون الغارة الفكرية بمثيلتها، ويرسمون خطط المستعمِر النفسية والاجتماعية، ويوجهون لجُملته العصبية لدْغات وصعْقات تحد من هيمنته عليهم؛ مثلما يعبث هو بمزاج أبنائهم، وخارطة مجتمعهم النفسية والاجتماعية…
يعلِّمنا “مالك” أن المستعمَر ما لم يواجِه مستعمِره بقواعد اشتباك معرفيّة ذِهْنية من جنس ما يخطِّط له ويؤسس له، فإنه لن يكون قادرا على التحرُّر فحسب، بل لن يكون أهلا للتصنيف ضمن المجتمعات الإنسانية، لأن التفكير الجماعي، في قاموس مالك، ليس شرطا في التحضر فحسب، بل خيط رفيع بين مجتمع إنساني حي، وكومة من الدمى الآدمية: فقد استدرك مالك بن نبي حديثه وهو يتحدث عن ميلاد المجتمعات وشروطها، وتوقف برهة ليستذكر أن التأمل الفكري المنفرد لا ينتج حضارة ولا ينجب مجتمعا، فلنستمع إليه وهو يقول:
«ومع ذلك، فإن هذه التأملات لا تنشئ حلا، ولكنها مجرد خطوة على طريق المشكلة ذات الأهمية الخطيرة بالنسبة إلى مستقبل العالم الإسلامي، ولكي نعطي هذه التأملات قيمة علمية يجب أن نعرضها على اختبار الحياة، في صورة إجراءات تربوية فعلية، في المستوى الإسلامي، ومن أجل هذا لا بد من الممارسة العملية، ولكي تكون مثمرة يجب أن يتولاها مجمع من المتخصصين، الخالين من العُقَد البيروقراطية التي تنتاب الموظف، ومن نظارة الرجل المتحزِّب، المحدودة حريته الأخلاقية بأوامر حزبه وجماعته، ومن أخلاق الفوضويين المغرمين بتملق الرأي العام».
لقد كان “مالك” من السبّاقين في الفكر الإسلامي المعاصر إلى فكرة مخابر الفكر، ومراكز التفكير، ولعله من الأوائل الذين قدَّروا ونظّروا وفكَّروا أن القدرة على “إنتاج الأفكار” لا يمكنها أن تكتسي الصحة والصلاحية، وليس بوسعها أن تتحلى بالفعالية ما لم تكن بنية اجتماعية جماعية سلسة، وبالرغم من أن المفكر بن نبي لم يشكل نموذجا عمليا في هذا السبيل، إلا أنه يمثل صرخة فكرية عميقة واعية علَّ الضمير الجمعي يستفيق من غفوته.
إن المتأمل، يدرك بما لا يدع مجالا للشك، أنّ العصر الإلكتروني الذي يعيشه الإنسان اليوم بعد مرور نصف قرن من رحيل “مالك بن نبي” جعلنا أكثر قابلية للاستعمار الإلكتروني، وأكثر استحمارا في البعد الفكري والمعرفي، فقد فتحت شبكات التواصل الاجتماعي خارطتنا النفسية الاجتماعية بصفة مجانية أمام كل متربص ومهيمن، وستبقى صيحة مالك بن نبي صدّاحة ما لم تولد المراكز والمخابر والمطابخ التي كان يحلم بها هو وكثير من المفكرين الصادقين ليعيدوا للمجتمع الإسلامي حرمته الفكرية، ويرفعوا مناعته من غارات معرفية تستهدف جملتهم العصبية والنفسية والاجتماعية من جاوة إلى مراكش، ومن طنجة إلى جاكارتا…

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!