-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

مالك بن نبي والقضايا الأربع 1/2

التهامي مجوري
  • 3490
  • 8
مالك بن نبي والقضايا الأربع 1/2

عندما انتهيت من قراءة الكتاب الجديد لمالك بن نبي رحمه لله، الصادر هذا العام 2014، عن دار “عالم الأفكار” الجزائرية، وهو كتاب لم يعرف في قائمة كتبه المعروفة، خرجت بجملة من التساؤلات، على غير عادتي في قراءة الكتب.

الرجل مات منذ أكثر من أربعين سنة، ولا زال المهتمون به يتحسسون ما بقي من آثاره التي لم تنشر، ويتداولون القصص والحكايات التي كانت في مجالسه وبين خاصته، ويلملمون المرويات عنه المنتشرة هنا وهناك، ويجمعون الدراسات التي كتبت عنه، ومع ذلك أيضا يتناقل يعض الناس أقاويل أخرى قد تكون مخالفة تماما لهذا النوع والاهتمام، والذي بقي محل تساؤل عندي في النهاية هو هذه الأقاويل الأخيرة، التي يمكن إجمالها في أربعة قضايا، تهمة التغريب الملصقة بمالك بن نبي، والفشل في المشاريع، والوسواس وعلاقته بالحركة الإسلامية.

أما الكتاب الذي قرأته فهو عبارة عن محاضرتين حول الحضارة والأيديولوجيا، وخطابان: خطاب موجه إلى الزعيم التاريخي الجزائري كريم بلقاسم، وخطاب موجه إلى ممثل جمعية إسلام المشبوهة بالأردن، وملحق بتقارير سرية للبوليس الفرنسي تثبت فيه تعامل بعد أعضاء جمعية إسلام مع المخابرات الأمريكية، ولا اتكلم في محتواه، لأترك للقارئ مجالا للبحث عن هذا الكتاب وقراءته والتساؤل حول ما يمكن أن يجد فيه من جديد، لا سيما وهو يتضمن نصوصا غير معروفة كما هو مثبت في الغلاف، ولكن أحكي ما وقع لي بعدما انتهيت من قراءة الكتاب ولا ادري لماذا انسقت للكتابة في هذا الموضوع، رغم أنني كنت أنوي الكتابة موضوع آخر، ولكنه مرتبط بالناسبة؟

كنت أنوي كتابة موضوع بعنوان “ثلاثيات بن نبي” بمناسبة ذكرى وفاته، الذي يصادف يوم 31 أكتوبر، يلخص أفكاره الأساسية والهامة في مشروعه الفكري، وكنت حينها أقرأ الكتاب المذكور آنفا، ولكنني عندما انتهيت من قراءة هذا الكتاب، وانا بطبيعة الحال قد قرأت كل ما كتب بن نبي وبعض ما كتب عنه، وأزعم انني أعرف أفكاره كما يريد لها هو أن تفهم، صرفت النظر عن “الثلاثيات” إلى الكلام عن هذه القضايا الأربع التي أشرت إليها وهي:

القضية الأولى أن الدكتور مولود عويمر وهو واحد من المعجبين والمتأثرين بفكر مالك بن نبي، قال في إحدى محاضراته إن بن نبي رحمه الله “قام بالكثير من المحاولات في مجالات أخرى إلى جانب الفكر، ولكنه فشل لأنه لم يخلق لغير الفكر، مثلما فشل ابن خلدون في أن يكون سياسيا”، ووافقه في ذلك من وافق وخالفه من خالف في ذلك اللقاء. 

والقضية الثانية التي يحرص المرجفون على الترويج لها بمناسبة وبغير مناسبة، وهي أن بن نبي كان مصابا بالوسواس، وهذه الفرية سنها عبد الصبور شاهين غفر الله له، كما توهمها غيره أو روج لها، سألت شخصا من اهل تبسة، كان طالبا بالقاهرة، عن بن نبي وهو ابن بلدته، فقال لي لو تحرك الأسطول السادس في عرض البحر الأبيض المتوسط لقال بن نبي إنه تحرك من أجل رصد تحركاتي…

 والقضية الثالثة: هل كان لمالك بن نبي مشروعا؟ لأن بعض الناس يقرأونه وكأنه كاتب منعزل عن الناس يسبح في الهواء ولا علاقة له بما يعيش الناس، فهو في أحسن الأحوال فيلسوف.. والموقف من الفلسفة عند العرب والمسلمين معروف.

القضية الرابعة: الفصل بين مالك بن نبي وبين الفكر الحركي الإسلامي

ما أبعد هذه الأمور عن بعضها.. إنسان يوصف بالفشل… ويوصف بالوسواس.. ويتساؤل هل هو صاحب مشروع….؟ وفي الأخير يقصد فصيل معين من الحركة القومية والوطنية وليجرد من الانتساب إليه أو ليحرم من فضله على هذا الفصيل

القضية الأولى الفشل: ما أظن أن الدكتور عويمر قصد الانتقاص من بن نبي بهذا القول، وإنما بالعكس، أراد أن يرفعه إلى مستوى “الشخص المصطفى”، أي أن الله اصطفاه ليكون مفكرا، وليس شيئا آخر، ولذلك حاول أن يمارس التجارة وفشل وحاول الهجرة لطلب العيش في الخليج وفشل..إلخ، وما كان هذا الفشل حسب رأي عوير إلا توجيه قدري له وتقويم لخياراته ليكون مفكرا.

وذلك بلا شك لا يوحي بالانتقاص، ولكن القضية من جانب آخر ليست بهذا الشكل، وإنما هي، في أن الرجل لم يختر غير الفكر مبدأ ووسيلة وغاية، بل كان مهتما بالفكر بالفطرة والسليقة، فهو يحكي عن نفسه انه كان مهتما بقضايا الأمة منذ الصغر، يدرك الفرق بين بن باديس العالم الحر ومولود ابن الموهوب الموظف في مؤسسات الدولة، رغم ما بينهما تشابه في الروح تجديدية في الإسلام، ويقرأ رسالة التوحيد لمحمد عبده، ويتابع أحداث بطل الريف عبد الكريم الخطابي، ويقرأ الجرائد متتبعا أخبار العالم الإسلامي وحركة الإستعمار..إلخ، والذي يقرأ “مذكرات شاهد القرن”، يرى أن الرجل غير مستعد للتحول إلى أي شيء آخر، وإنما الحاجة هي التي فرضت عليه تلك المبادرات التي قام بها والمغامرات التي خاضها، وأخفق فيها، حيث لم تتجاوز الحرص على “تامين الخبزة” حتى لا يبقى عالة على عائلته الفقيرة، لا اكثر ولا أقل، فهو عندما مارس التجارة، لم يعطها حقها من الاهتمام كما يفعل التاجر، وعندما فكر في الهجرة، لم يصر على صورة من صور الهجرة بعينها، وكانه يريد التخلص من بقائه في فرنسا وكفى، فقد نوى الهجرة لغرض، وحدث نفسه بالهجر لغرض آخر، ولما تمكن منها بوصوله إلى القاهرة، اختار أمرا آخر لم يفكر فيه من قبل، وهو اللجوء السياسي، وليس صفة أخرى.

فهو إذا لا يُعَدّ فشلا، وإنما يعتبر قام بمحاولات من اجل ضمان استمرار النهج الذي رسمه لنفسه وهو الاشتغال بواقع الأمة، والعمل الفكري، ومع ذلك لا مشاحة في الاصطلاح، ولكن ما ينبغي توضيحه هو الجانب الأخلاقي من الفشل، إذ هناك فرق بين من يعمل ويجد ويجتهد فيفشل، وبين من لا يهتم بالموضوع بالقدر اللازم له ثم يفشل. فالأول نقول عنه فاشل لأنه لم يرتق إلى مستوى تامين المطلوب منه لإنجاح محاولته فهو فاشل، والثاني على العكس لو اهتم بالموضوع لنجح فيه؛ لأنه مؤهل فكريا لأن يخوض فيه، ولكن ظروفه لا تسمح له بذلك لأن ما بين يديه أهم مما سعى فيه، ولذلك بقيت الفاقة والحاجة تطارده إلى مرحلة متقدمة من حياته، ولولا محيطه من إخوانه وأبنائه من أصفيائه وبعض مداخيل كتبه لضاع بن نبي.

مات بن نبي ولا يملك بيتا يليق بكاتب في حجمه، إلا شقة صغيرة في شارع فرانكان روزفيلت ضواحي قصر الشعب، بالجزائر العاصمة، ولا ندري أهي ملك له أم هي من املاك الدولة “بيان فاكون”، ومع ذلك ربما سعى خصومه الأيديولجيون لحرمانه منها.

القضية الثانية الوسواس: حقيقة عندما يقرأ المرء بعض تحليلاته واحتمالاته وآرائه في بعض القضايا الشخصية والوطنية والدولية، يشعر وكانها بعيدة جدا عما يقول أو يتوهم، ولكن مع مر الأيام يرى أن ذلك البعيد أضحى حقيقة؟

فبالنسبة لشخصه يرى أنه يقوم بدور جبار في حركة وسيرورة التحرير في العالم الإسلامي، لم يفهمه في ذلك الوقت إلا الاستعمار، ومن ثم كانت مواجهة أفكاره بواسطة شخصيات واحداث وقضايا لتعيقه عن تبليغ رسالته، ولتحد من تأثيره في الشباب، ومن الأمثلة والأمور الشخصية التي ذكرها، أنه راسل قيادة الثورة في القاهرة من أجل الالتحاق بميدان القتال كممرض، وهناك يقوم أيضا بعمل المؤرخ، ولم يتلق الرد، لماذا يا ترى؟ وقام بمراسلة أخرى لكريم بلقاسم يحذر فيها من نجاح ديغول في تشكيل قوة ثالثة للتفاوض وربما لتسلم قيادة البلاد بعد الاستقلال، وربط هذا الموضوع بإشاعات متعلقة به، ولم يتلق ردا فيما أعلم. “

وعدم تلقي رد على مراسلة لا معنى له إلا ان الرجل غير مرغوب فيه من جهة او جهات، أو ان القوم غير مدركين تمام الادراك لما يحاك لهم، يعدون مثل هذه التحذيرات من قبيل الوسواس.

وذكر مثالا آخر وهو انه نزل بفندق ولما تقدم لتسديد الفاتورة وجد من مستهلكات النزيل “خمرا”، ومثال آخر نشر كتاب جمعت فيه جريدة العروة الوثقى، وفي مقدمة الكتاب ذكر أسمه بين إسمين يهوديين أسلما، أحدهما حسن إسلامه وصار من المنافحين عن قضايا الأمة والآخر عميل للمخابرات، وجاءت ذكر إسمه كالتالي “”مالك بن نبي كاتب فرنسي اعتنق الإسلام ودافع عنه بقوة.

 

بن نبي عقل ديكارتي لا يمكن ان يؤمن بالصدف تاتي هكذا من غير علاقة لها في الوجود بأمر ما في اتجاه ما سنوضح ذلك لاحقا.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
8
  • قاسم

    بارك الله في كاتب المقال وفي كل المعلقين لكنني اعلق بمرارة ان الجزائر لم تستفد من عبقرية هذا الرجل ولم يتركوه ينظر لها وهمش هو وافكاره وضيق الخناق عليه وفسح المجال لامثال رضا مالك يعيثون فيها فسادا ، فكانت النتيجة انهم اوصولنا الى الكارثة التي نحن عليها اليوم مجتمع بلا هوية انقسم الى مجتمعين واحد غربي التفكير والعيش والثقافة والآخر ، والاخر يحاول ان يجد معالمه وهويت الاسلامية الضائعة ولا حول ولا قوة الا بالله وحسبنا الله ونعم الوكيل فيمن اوصلنا لهكذا وضع .

  • فاتح

    كبسطاء نحن نعرف ابن نبي كمفكر هاله واقع الامة الاسلامية فافنى عمره في تشخيص الداء و محاولة وصف الدواء وكان موفقا ام ما يطرحه الكاتب الفاظل من سلبيات في شخصيته او مسيرته الحياتية كرجل عادي فهي لا تهمنا في شيئ و لا تنقص من قدره عندنا شيئ فهذه الملاحظات وليست ''القضايا'' تناقش في مؤتمرات او نوادي و لا تعرض على البسطاء مثلنا فتزعزع الهالة التي رسمناها في عقولنا لابن نبي فهو مفكر بامتياز و من طراز العضماء وليس نبيا او معصوما لذا اقول ان فكرتي عن بن نبي كانت ولا زالت كما هي قبا و بعد قراءة المقال...

  • فاتح

    احسنت ووفقت في تدخلك I LIKE

  • جمال

    لا يمكن لشخص كمالك بن نبي أو إبن خلدون أن ينجح في السياسة لسبب بسيط وهي أن كلا الرجلين يتسمان بالموضوعية في الطرح والتحليل وينطلقان من مبادئ أخلاقية . أما السياسة فقلما يكون فيها شيئ من الموضوعية أو الأخلاق ! ونحن نلاحظ اليوم كيف أن الصحفي وليس المفكر يقاوم إغراءه من طرف السياسيين للإبتعاد عن الموضوعية والأخلاق !

  • انتقام الافكار

    اضن من الضلم والاجحاف ان نضع تقييم ل شخص بدون ان نفكك جوانب شخصيه وما بالك لو كانت شخصية عضيمة خارقة لابعاد الزمان والمكان ملهمة قائدة ولو جمعت فوارق هذا الشخص ذو الطبيعة الاحترافية مع طبيعة اشخاص هواة مبتدئيين

    اكيد يكون شخصية جذابة للنقد والمشاكل والارهاصات المفكر فالمفكر هو امة قبل كل شيئ ملة ابيكم ابراهيم والشخص الامة لا تفهمه الا امتلكت ما زاد عنك في النفسية الاستعمار فهم لانه امة امتلكت ناصيتها لاكن اهله ضيعوها

    ارجو ان تتنبهو فلعبة القدر كلاعب اختارته اكيد ترك ما يدافع به لنف

  • بدون اسم

    يتبع
    "بكل أسف الاستعماريون فهموني بالنصف الآخر من كلمتي، و نلت ما منهم ما أستحق؛ فأنا في أعينهم لا أسب استعمارهم بل أقتله و هو داخل البيضة، أخنقه في جذوره التي تمتد في مساحة القابلية للاستعمار." (ص 34-35 وجهة العالم الاسلامي الجزء الثاني..).
    رحم الله مفكرنا الكبير و أدخله فسيح جنانه...صحيح أنه مات لكن أفكاره لزالت حية بين كل من يريد الحياة لهذا الشعب و المجتمع الاسلامي على العموم...

  • بدون اسم

    شكرا أستاذ على هذا الموضوع القيم عن مفكر كرس حياته لهموم المجتمع الإسلامي و كيفية إخراجه من دائرة التخلف و القابلية للإستعمار...و الاستعمار. لكن كما يقول هو "ولدت في بلد و في عصر يدرك بوضوح نصف الذي يقال، لكن الذي يقول كلمة حول النصف الثاني سوف يحاكم بكل قساوة. فأنا هنا أكتب لإخوتي القابلين للاستعمار و المستعمرين في الجزائر، لكن إخوتي لم يفهموا أفكاري حين عرضتها بفاعلية، و هكذا سببت لهم نوعا من الشعور بالإهانة و الرفض ضد مصطلح القابلية للاستعمار وحده."
    "بكل أسف الاستعماريون فهموني"..يتبع

  • خالد25

    يمكن أن نعرف مالك بن نبي من خلال هذه الشخصيات :
    -يقول عنه شيخ المؤرخين الجزائريين المرحوم سعد الله :لقد كان دولة وحده .
    -ويقول عنه المرحوم محمد المبارك : أنا لا أقول أنه بن نبي لكني أقول أنه ينهل من نفحات النبوة وينابيع الحقيقة الخالدة.
    -ويقول عنه تلميذه الأستاذرشيد بن عيسى :كان لمالك بن نبي إيمان الغزالي والإتساع الثقافي لإبن خلدون والتوتر البروميتي لجمال الدين الأفغاني وعزم حسن البنا .
    لقد كان يقول إننا في حاجة لمفكر وليس لمهندس ،
    أي في حاجة إلى معرفة الأصول والمجعيات قبل الفروع والتفاصيل .