-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

ما هكذا نتعامل مع الرياضيات! 

ما هكذا نتعامل مع الرياضيات! 

في عام 1940 وُلد بمدينة سطيف (الجزائر) الرياضياتي الفرنسي دوني غدج Denis guedj (1940-2010) الذي اشتهر بانشغاله بتاريخ الرياضيات وبنشر ثقافتها العلمية عبر مؤلفاته. ولم يقتصر نشاطه على الكتابة في الرياضيات بل راح يؤلف السناريوهات ودخل المسرح من بابه الواسع.

ومن كتبه التي نالت شهرة عالمية، روايته بعنوان “نظرية الببغاء”  Théorème du perroquet، سجّل فيها المراحل التي مرت بها الرياضيات منذ أقدم العصور مرورا بفيثاغورس والخوارزمي وعمر الخيام وأولر Euler وفيرما  Fermat–صاحب النظرية التي تم البرهان عليها بعد 3 قرون. واختتم روايته بالحديث عن مُخَمَّنَة الألماني غولدباخ Goldbach، وهي المسألة التي طرحها صاحبها عام 1742، أي قبل قرابة 3 قرون، ولم يتم البرهان عليها بعد. وما يسميه الرياضياتيون مُخَمَّنَة هو زَعْمٌ يدلي به أحد كبار الرياضياتيين أمام الملأ يعترف أنه لم يتوصل إلى إثباته، وغالبا ما يطلب من زملائه البحث عن برهانه.

نظرية الببغاء

في رواية دوني غدج “نظرية الببغاء” التي تُرجمت إلى أكثر من 20 لغة، إشارة، كما أسلفنا، إلى مُخمَّنة غولدباخ إذ صور الروائي مشهد أحد علماء الرياضيات يعيش في أدغال غابة الأمازون، وقد توصل إلى البرهان على هذه المخمَّنة! لكن هذا الرياضياتي الموهوب لم يُرِد بعد هذا الإنجاز الكشف عن برهانه للأسرة الرياضياتية، وانتحر إثر قيامه بحرق مستندات كل ما قام به من أبحاث. وتمضي الرواية في هذا الوصف وتقول إنه كان لهذا العالم ببغاء لقّنه قبل انتحاره تفاصيل برهان مخمَّنة غولدباخ فحفظها الببغاء، وظل حيا بعد وفاة سيده. ثم إن مجموعة من المجرمين قصدوا الببغاء في الغابة ليستحوذوا عليه، غير أن الطائر ظل صامتا ولم ينطق بما علَّمه صاحبه حول برهان مخمَّنة غولدباخ. فقام المجرمون بقتله. وتنتهي الرواية بصورة الببغاء يُحتَضر وهو يردد أمام الحيوانات –دون وجود بشر- برهان المخمَّنة! وهذا للدلالة بوجه خاص على صعوبة الإتيان على هذه المخمَّنة.

كما كانت المخمَّنة موضوع رواية أخرى عام 2007 تعرِض حال رياضياتي انعزل عن العالم وعن أسرته ليقضى كل حياته في محاولة البرهان على هذه المخمَّنة، لكنه لم يفلح. ويُذكر أيضا أن أحد الناشرين البريطانيين في لقطة إشهارية لأحد كتبه صدر عام 2000 أنه أطلق جائزة بمليون دولار لمن يأتي ببرهان على مخمَّنة غولدباخ قبل عام 2002! ولم يتقدّم أحدٌ لهذه الجائزة. كل ذلك يبيّن مدى الاهتمام الذي يوليه علماء الرياضيات لهذه المخمَّنة ومدى صعوبتها.

وتطرح مخمَّنة غولدباخ سؤالا لا يتطلب فهمُه أكثر من مستوى السنوات الأولى من التعليم المتوسط، فهي تقول: “كل عدد زوجي يساوي مجموع عددين أوليين”. والعدد الزوجي هو العدد الطبيعي (أو الصحيح) الذي يقسَّم على 2، والعدد الأولي هو الذي لا يقسَّم إلا على نفسه. لكن المدة التي مضت على طرح السؤال (قرابة 3 قرون) من دون تقديم برهان يؤكد صعوبة الإجابة رغم بساطة صيغة السؤال.

العبقري السويسري

من بحث في هذا السؤال؟ بحث فيه كل من اطَّلع عليه. ومن بين هؤلاء عمالقة الرياضيات، أمثال العبقري السويسري أولر Euler (1707-1783) الذي كان أول من وَجَّه إليه غولدباخ سؤال مخمَّنته، وعجز أولر عن الإجابة! هناك من يصنف أولر بأنه أكبر رياضياتي عرفه هذا العلم. ومن إنجازاته أنّ أكاديمية العلوم الفرنسية كانت تطرح مسابقات دورية على كبار العلماء في ذلك الوقت، وقد فاز أولر بـ14 منها من بين 16 مسابقة.

قد يتبادر إلى الذهن أن في وقت أولر كانت الأدوات الرياضيات ضعيفة مقارنة بما هو عليه الحال الآن. هذا صحيح، غير أنه عندما ندرك عظمة هذا العالِم فإننا لا نكاد نصدق بأنه عجز عن حل معضلة غولدباخ؛ فالفذّ أولر دخل الجامعة وعمره 13 سنة، ونال أعلى شهادتها قبل بلوغه سن العشرين. وتمجيدا لهذا العالم وتفاخُرًا به وضعت السلطات السويسرية صورته في أوراق عملتها وفي طوابعها البريدية. وفوق كل ذلك فإن أكاديمية العلوم السويسرية أنشأت عام 1907 (أي قبل نحو قرن وربع القرن) هيئة سمّتها “لجنة أولر” مَهمَّتُها التكفل بجمع أعمال هذا العبقري.

ألا نستغرب في ما قدّم هذا الرجل للرياضيات وللعلوم المحيطة بها عندما ندرك الكمّ الذي نشره في المجال العلمي؟ فقد نشرت “لجنة أولر” لحد السنة الماضية 84 مجلدا  من أعماله، جاءت في أزيد من 35 ألف صفحة… وعملُ التجميع هذا لازال متواصلا منذ أزيد من قرن…

وبعد عجز أولر راحت قائمة طويلة من كبار الرياضياتيين، منهم البريطاني غودفري هاردي Hardy (1877-1947) الذي يعدّه كثيرٌ من العلماء أكبر رياضياتيي القرن العشرين. وتعمّق هؤلاء في أبحاثهم علّهم يهتدون إلى الحل فحققوا بعض النجاح، لكن أبحاثهم لم تمكِّنهم من إنهاء البرهان على مخمَّنة غولدباخ. وآخر من ذاع صيتهم، وخاض غمار هذه المخمَّنة، وجاء بجزء ضئيل عام 2014 من الإجابة المنشودة هو العالم الفذّ الأسترالي تيرنس طاو Terence Tao (المولود عام 1975) الذي يعدّ من أكبر علماء الرياضيات في زمانه. فقد نال طاو -وعمره لم يتجاوز 32 سنة- أعلى وسام يُتوّج به عالمٌ في الرياضيات، وهو ميدالية فيلدز. وليس هذا فحسب إذ جمع أزيد من 15 جائزة عالمية في الرياضيات ولا زال يبحث، ويكد للإتيان على مخمَّنة غولدباخ.

ونحن في الجزائر

لا شك أن القارئ يتساءل: وماذا بعد هذه المقدمة الطويلة؟ لقد ترددتُ كثيرا في التطرق إلى هذا الموضوع كي لا يشعر بعض الزملاء في داخل الوطن بأننا من الذين يبخسون الناس أشياءهم أو نستنقص أعمالهم ولا نراعي جهودهم. لكن الكيل طفح مع بعض هؤلاء في المدة الأخيرة.

هذا أستاذٌ محترم من إحدى جامعاتنا، ذو خبرة طويلة يُصدر مقالا باللغة الإنكليزية عام 2016 عنوانه “البرهان بالتراجع على مخمَّنة غولدباخ”، وينشره في موقع عالمي مفتوح لجميع من يريد أن ينشر من دون تحكيم. ولم نقرأ في المراجع العالمية التي نتابعها أن أحدا أولاه أهمية أو اتخذه مرجعا حتى من باب الإشارة إلى هذا البرهان. وقد كتب هذا الأستاذ عنها أيضا عام 2015، ثم قدَّم عام 2020 مقاربة أخرى لمعالجة هذه المعضلة نشرها في الموقع الإلكتروني ذاته. وتستند هذه المقاربة إلى مبدأ البرهان بالخلف.

وقد ثارت حول إنجاز هذا الأستاذ ضجة كبيرة في وسائل التواصل الاجتماعي التي تعنى بالشأن المحلي، وكتب في بعض الصحف الوطنية باللغتين أن الأستاذ الجزائري أتى على برهان هذه المخمَّنة. كل هذا وأسرة الرياضيات في الخارج التي تنتظر بفارغ الصبر حل هذه المعضلة منذ 3 قرون لم يتحرك لها ساكن!

لم نفهم الطريق الذي سلكه هذا الأستاذ الجزائري الذي لا شك يدرك النهج المتَّبع جيدا: فإما أنه يعتبر أنه أنجز شيئا ذا شأن في حل المعضلة وينشره بالطريقة السائدة لدى العلماء، وإما أنه لا زال يجري أبحاثه في هذا الحقل. وفي هذه الحالة، ينتظر استكمال العمل للحديث عنه أمام الملأ تفاديا للتهريج الذي لا يخدم الأستاذ الباحث ولا جامعته ولا بلده.

ليس سرا أن المعمول به في مثل هذه الحالات في بقاع العالم، لاسيما عندما يتعلق الأمر بموضوع بالغ الأهمية ينتظر الجديد فيه كل من يتعاطى الرياضيات، أن يوجِّه صاحب الاكتشاف عمله إلى مجلة أكاديمية راقية ويطلب نشره. وعندئذ تقوم المجلة بتوجيهه إلى محكّمين جادين ليدرسوا مدى صحة مختلف مراحل البرهان. وإذا ما وجدوا ثغرات صغيرة يحاولون اقتراح سدّها على الكاتب. وبعد ذلك يتم نشر المقال في المجلة إذا ما أصاب الكاتب هدفه، ويذيع صيت المجلة وصاحب المقال، وتقدَّم له الجوائز العالمية، وتتهاطل عليه الدعوات من مراكز البحث، وينتشر الخبر في الصحف العالمية كالنار في الهشيم فيعلم الناس في أرجاء العالم أن هذه المعضلة قد حُلت.

وهذا ما حدث مثلا عام 1976 مع مخمَّنة الألوان الأربعة، وفي 1994 مع مخمَّنة (نظرية) فيرما، وفي عام 2006 مع مخمنة بوانكري Poincaré (1854-1912). ولذلك كله لم نفهم الطريق الذي سلكه هذا الأستاذ الذي لا شك يدرك النهج المتَّبع جيدا: فإما أنه يعتبر أنه أنجز شيئا ذا شأن في حل المعضلة وينشره بالطريقة السائدة لدى العلماء، وإما أنه لا زال يجري أبحاثه في هذا الحقل. وفي هذه الحالة، ينتظر استكمال العمل للحديث عنه أمام الملأ تفاديا للتهريج الذي لا يخدم الأستاذ الباحث ولا جامعته ولا بلده.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!