محكمة انتقائية عوراء
الولايات الماضية “مُحبَطة” وغاضبة من جنوب إفريقيا، لأنها رفضت القبض على الرئيس السوداني عمر البشير وتسليمه للمحكمة الجنائية الدولية لمحاكمته بتهم ارتكاب “جرائم ضد الإنسانية” و”جرائم إبادة” في دارفور..
كان يمكن فهمُ غضب أمريكا لو أنها وقّعت على اتفاقية إنشاء هذه المحكمة في عام 2002، لكنها وربيبها الصهيوني و5 دول أخرى عارضت إنشاءها، ولم تكتفِ بالامتناع عن التصويت، ووقفت بذلك ضد 120 دولة في العالم، كما عارضت منح المحكمة “سلطة عالمية” تتمكّن بموجبها من متابعة أي سفاح في أي دولة، وإن لم يكن عضواً في المحكمة، دون المرور على مجلس الأمن الدولي، والهدف هو حماية قادتها وكذا السفاحين الصهاينة من المتابعة أمام هذه المحكمة، عبر إشهار الفيتو في مجلس الأمن لمنع إحالة ملفاتهم إليها.
ونتيجة لذلك، تعذّر اليوم متابعة جورج بوش الابن أمام الجنائية الدولية على احتلاله أفغانستان والعراق وقتل مئات الآلاف من مواطني البلدين، كما تعذّر متابعة سفاحي الكيان الصهيوني على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبوها في غزة منذ نحو عشر سنوات، آخرها قتل مئات الأطفال والنساء والمدنيين في حرب الصيف الماضي.
ومن هذا المنطلق، لماذا تعبّر أمريكا عن سخطها من جنوب إفريقيا، لأنها لم تُلق القبض على البشير ولم تسلّمه للجنائية الدولية، والحال أنها ترفض الانضمام إلى هذه المحكمة وأوعزت لربيبها الصهيوني بالمِثل، حتى يكون قادة البلدين بمنأى عن أي متابعة من الجنائية ويستطيعون السفر إلى أي مكان في العالم دون خوف أو منغّصات؟
المفترض أن تكون القوانين الدولية فوق جميع الدول، ومادامت هذه القوانين تجرّم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، فالمفترض أن ينطبق ذلك على الجميع، وفي أي مكان بالعالم، وأن يُساق أي رئيس بلد وكبار أعوانه إلى المحكمة الجنائية الدولية إذا ارتكب جرائمَ من هذا النوع بحقّ شعبه أو بحق شعبٍ آخر، لكن الحاصل أن الولايات المتحدة والكيان الصهيوني متورطتان في جرائم من هذا النوع، في أفغانستان والعراق وفلسطين، ولكن قادتهما يسْلِمون من كل متابعة أو مساءلة، لأن البلدين رفضا الانضمام إلى المحكمة الدولية، كما أن أمريكا تملك “حق” الفيتو في مجلس الأمن، ولا تقبل سوى بإحالة ملفات خصومها إلى الجنائية، وليس ملفات قادتها وحلفائها.
ومادام الأمرُ على هذا النحو، فإن إصرار الجنائية الدولية على القبض على البشير ومحاكمته، يعدّ بمثابة قهر للضعيف، وكيل فاضح بمكيالين، ما يجعل هذه المحكمة تبدو انتقائية، تمييزية، عوراء، لا ترى جرائم بوش وبلير ونتنياهو، على هولها وفظاعتها، ولكنها ترى جرائم البشير بكل وضوح.
إنها عدالة القويّ التي لا تعاقب إلا الضعيف، ولذلك يحق للبشير أن يرفض المثول أمامها مادام أمثال نتنياهو وباراك وبوش أحراراً طلقاء.
لا ندافع عن البشير، ولكننا نريد عدالة تعاقب الشريف والوضيع دون تمييز، ولا يفلت فيها أحدٌ من العقاب كائناً من كان، وإلا فالأحرى أن يُترك الجميع للعدالة المطلقة التي لا مهربَ منها لأحد؛ عدالة الواحد الجبّار.