-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
ثاموغلي

محمد أركون … وهاجس الدراية والرواية ( 1 / 2 )

محمد  أركون … وهاجس  الدراية  والرواية  ( 1 / 2 )

لا يجرؤ على الفكر إلا أولائك الذين أصيبوا بجرح عميق… من يجرؤ على الاقتراب من السؤال مسافة أكثر من اللازم احترقت يداه، وربما عميت عيناه. ذلك أن السؤال محمي ومحروس بالأسلاك الشائكة… ممنوع أن تقترب من السؤال الأعظم، ممنوع أن تنظر إليه، أن تحدق فيه، أن تطرح عليه علامة الاستفهام. ذلك أن السؤال مطموس منذ زمن طويل إلى حد لم يعد يبدو سؤالا. لقد تحوّل إلى جواب نهائي قاطع مانع. لقد أصبح مـسلــّمة بديهية لا تحتاج إلى نقاش… وخلع عليه الزمن المتطاول حلة التقديس(1).] “هاشم صالح”

لم يكن في نيتي أن أكتب مقالة عن المفكر الكبير الراحل محمد أركون، لكن سكوت المتخصصين في الفكر والفلسفة إزاء وفاته ورحيله إلى دار الخلد، قد شجعني على تسجيل هذه الوقفة المعرفية، من موقعي كمثقف بسيط، يحترم الكتابة الجادة ولو كانت مخالفة لقناعاتي الخاصة. ولقد حز في نفسي أن أقرأ بعض التعاليق حول الرجل، مشحونة بالبغضاء والتبخيس، صادرة عن رجالات ينتسبون إلى العلم والمعرفة، لم يحترموا فيها أخلاقيات البحث العلمي. وكان الأجدر بهم أن يستغلوا هذه المناسبة على الأقل، لفتح نقاش واسع، وفق أخلاقيات المناظرة العلمية، يستفيد منه الجمهور العريض، ويكسرون به الرتابة المملة التي تعاني منها الساحة الثقافية، في زمننا هذا الذي استأسدت فيه الرداءة، يناقشون أفكاره مناقشة علمية، على غرار ما فعله قديما ابن رشد، حين رد على كتاب “تهافت الفلاسفة”للإمام أبي حامد الغزالي، بكتاب “تهافت التهافت”، وعلى غرار ما فعله حديثا المفكر الإسلامي الكبير محمد عمارة، الذي ردّ على كتاب “مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن”لمؤلفه نصر حامد أبو زيد، بكتاب تجلت فيه المناظرة العلمية في أجلى صورها، بعنوان: “التفسير الماركسي للإسلام«، ورغم اختلاف الرجلين في الرؤى اختلافا جذريا، فقد دافع الدكتور محمد عمارة عن حق نصر حامد أبو زيد في الحرية الفكرية، وعارض إحالة قضيته على العدالة التي قررت التفريق بينه وبين زوجته الدكتورة ابتهال يونس، وقال في هذا السياق مدافعا عن مبدأ حرية الفكر: “إن قضية الدكتور نصر أبو زيد هي قضية فكرية،  مجالها  الحوار  الفكري . والمختصون  فيها  هم  المفكرون  والباحثون . وهي  ليست  قضية  قانونية، يختص  بها  المحامون  ودوائر  القضاء ” ( 2 )

  • وأضاف بعد أن أكد بأن التعددية في الإسلام سنة من سنن الله، قائلا: “… فالإسلاميون سيكونون الخاسرين، قبل غيرهم، إذا تم تقييد حرية الفكر. ومن مصلحتهم، قبل غيرهم، فتح أوسع أبواب الحرية أمام الجميع…” (3).
  •    إن الغاية من ذكر هذا الموقف الرفيع هي تبيان أن النزاهة العلمية تقتضي احترام محمد أركون -بغض النظر عن قبول أو رفض أفكاره المقترحة- باعتباره باحثا ومفكرا ملأ الأبصار والأسماع في العالم قاطبة، وطرح إشكالية تخلف المسلمين، واقترح حلولا لمساعدتهم على الانبعاث ومسايرة عصرهم وللمساهمة في تكريس السلم العالمي والحوار بين الحضارات، أساسها نقد التراث الإسلامي بمعيار العقلانية، وبتوظيف الأدوات المعرفية التي أنتجها الغرب، الذي لا يماري أحد في مسألة تفوق حضارته الغالبة. وأنه من واجب المثقف أن يعض بالنواجذ على أدبيات المناظرة العلمية والحوار الراقي، وأن يترفع عن المهاترات المفضية إلى التخندق الإيديولوجي، ومن ثم قصف الرأي الآخر بتهم التخوين والتكفير والتأثيم، وهي -كما أكد الدكتور عبد الإله بلقزيز- حالة ليست من هواجس الكتابة المعرفية(4). 
  •      وعلى أي حال، فلا داعي للحزن على رحيل المفكر محمد أركون، لأنه قد صنع لنفسه عمرا ثانٍ لا يفنى، بما تركه من كتب فكرية، وآراء ومحاضرات واجتهادات ومناظرات، بلغات عديدة، وفي مختلف جامعات المعمورة، حول قناعاته الفكرية الهادفة إلى بناء علاقة متوازنة بين الأصالة والمعاصرة، أي بين موروثنا المحلي وثقافة الغرب، وإلى تمكين العالم الإسلامي من الأخذ بأسباب الانبعاث، الذي يمكنه من مسايرة عصره، فكريا وعلميا وحضاريا وسياسيا، وبناء جسور التواصل مع الحضارات البشرية الأخرى، وتجاوز الاحتقان والتصادم، لأن البشرية عانت في الماضي البعيد والقريب من ويلات الحروب الدينية، والحضارية ما فيه الكفاية. ولا شك أن الأجيال القادمة ستذكره بهذه الجهود الفكرية، التي تبقى جهودا بشرية تحتمل الخطأ والصواب، وسيتبوأ مكانه ضمن الخالدين، على غرار القامات السامقة في الفكر العربي الإسلامي قبله، أمثال ابن رشد، وابن طفيل، وابن سينا، وابن هشام، والكندي، والفارابي، والرازي، ومسكويه، وابن عربي، والطبري، والمسعودي، والموردي، وابن تيمية، وابن خلكان، وابن خلدون، والمقدسي، وياقوت الحموي، والإدريسي، وغيرهم من أعلام الفكر والمعرفة الكثيرين(5) 
  • هاجس  الفكر  الإسلامي  المعاصر
  • انشغل المفكرون والباحثون في العالم الإسلامي، بإشكالية تخلف العالم الإسلامي وانحطاطه الحضاري، فتساءل بعضهم لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ في حين طرح البعض الآخر إشكالية “القابلية للاستعمار”الساكنة في دواخل المجتمعات الإسلامية، وهل يعود هذا الانحطاط إلى  أسباب  بنيوية  خاصة  بالمسلمين  مثلما  ادعت  بعض  الدراسات  الغربية  ذات  الأهداف السياسية؟  أم   إلى  أسباب  تاريخية؟
  • ومن الطبيعي أن تختلف الآراء حول طبيعة الدواء الناجع لهذا الداء، فرآه البعض في النكوص إلى الماضي  والبحث عنه في سيرة السلف الصالح، في حين اقترح البعض الآخر حلولا مستوردة من الحضارة الغربية الغالبة، وتوسط البعض الآخر بين الحالتين فدعا إلى مسك الأصالة بيد،  والمعاصرة  بالأخرى،  وسعى  كل  تيار  إلى  الدفاع  عن  رؤيته  بالحجة  والبرهان  أحيانا، وبالضرب  على  أوتار  العاطفة  والشعبوية  أحيانا  أخرى  لكسب  الرأي  العام .
  • ومن الطبيعي أن يهتم محمد أركون بهذه الإشكالية التي أرّقت الأنتلجنسيا العربية والإسلامية، خاصة بعدما نجح الغرب في تشويه صورة الإسلام، وفي هذا السياق جاء في تعليق هاشم صالح -مترجم كتبه- واصفا قلق محمد أركون: “الشيء الذي يقلق أركون هو أنه غير مسموح لهذه المجتمعات (مجتمعاتنا) بأن تنتج تاريخها الخاص كما تشاء، وطبقا لمعطيات تراثها وإمكانيات حاضرها. إنها دائما في موقع المتهم المدان: متهمة باحتقار المرأة، بالتعصب الديني، بالجهل، بعدم الخروج من مأزقها… وكالفلاح الفقير الذي يقف خجلا بنفسه أمام الغنيّ المؤثر، يقف مثقفنا العربي أمام نظيره الغربي وهو يكاد يتهم نفسه ويعتذر عن شكله غير اللائق و”لغته غير الحضارية”و”دينه المتخلف”. ويستحسن المثقف الغربي منه هذا الموقف ويساعده على الغوص فيه أكثر فأكثر، حتى ليكاد يعلن نفسه أو يخرج من جلده لكي يصبح حضاريا أو حداثيا مقبولا ! … إن  أركون  الذي  يعرف  الغرب  من  الداخل  أكثر  من  أي  مثقف  عربي  آخر،  لا  يستطيع أن  يقف  مثل  هذا  الموقف  المهين  والساذج … “( 6)                                                           
  • ” يتبع “

  • الهوامش
  • 1 – هاشم  صالح،  الانسداد  التاريخي،  لماذا  فشل  مشروع  التنوير  في  العالم  العربي؟  دار  الساقي،  بيروت  2007م،  ص  12 .
  • 2 –   محمد  عمارة،  التفسير  الماركسي  للإسلام،  دار  الشروق،  القاهرة  ،  الطبعة  الثانية،2002،  ص  9 .
  • 3 – المرجع  نفسه .
  • 4 – عبد  الإله  بلقزيز،  أزمة  الفكر  السياسي  العربي،  دار  الفكر  ،  دمشق،  الطبعة  الأولى،  2000،  ص  98 .
  • 5 – نيقولا  زيادة،  قمم  من  الفكر  العربي  الإسلامي،  الأهلية  للنشر  والتوزيع،  بيروت  1987 .
  • 6 – محمد  أركون،  أين  هو  الفكر  الإسلامي  المعاصر؟  ترجمة  وتعليق  هاشم  صالح،  دار  الساقي،  بيروت،  الطبعة  الثالثة،  2006،  ص  24 .

 

 

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • بدون اسم

    قلم مقنع ومتمكن في انتظار المزيد