الرأي

محمد عليه الصلاة والسلام المثل الأعلى للإنسانية

ماتزال الإنسانية رغم تقدّمها المادي “جائرة السبيل (❊)، حائرة الدليل”، وكلّما ظنّت نفسها قد اهتدت إلى سواء السبيل، ووجدت أحسن دليل يقودها في مجاهل الحياة وأهوائها؛ تبيّن لها أنها لم تزدد إلا ابتعادا وانحرافا عن الصراط السوي، وتوغلا في الضّلالة والغواية، وتبيّن لها أن مثلها كمثل الظّمآن الذي رأى سرابا فحسبه شرابا، فأسرع إليه، فلما جاءه – وقد ازداد عطشا – لم يجده شيئا، كما تبين لها أن الدليل الذي ظنّته خِرّيتا هو “أحير من ضبّ”.

وما منع الناس أن يهتدوا إلى أقوم سبيل، وأهدى دليل إلا الجهل “يرمي الحق بالتهم”، والتعصب المقيت الذي يعمي ويُصم. ولو أنهم استعملوا العقل الذي منّ به الله – عز وجل- عليهم، وأنعموا الفكر والنظر – كما أمروا من خالقهم سبحانه – لوجدوا هذه السبيل التي تسعدهم في الدنيا، وتنجيهم في الآخرة، وهي الإسلام، ولاهتدوا إلى الدليل الخِرّيت، وهو سيدنا محمد – عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم – الذي يحيي المسلمون اليوم ذكرى ميلاده الشريف، وهي ذكرى كما يقول الأخ الفاضل المبروك زيد الخير في حلّته السّندسية:

لا يستطيع بليغ أن يوفيها ما تستحق بإنشاء ولا قلم

لقد اعترف أولو النّهى وأرباب الحجى في المشارق والمغارب – بعد التأمل والدراسة والبحث – أن سيدنا محمدا – عليه الصلاة والسلام – هو “الإنسان الكامل، أو النموذج الإنساني”، كما تقول الراهبة الانجليزية الدكتورة ارين أرمسترونج في كتابها الذي سمّته “محمد” – عليه الصلاة والسلام (ص 388)، ومن قبلها قال المفكر الألماني جوته: “لقد بحثت في التاريخ عن مثل أعلى لهذا الإنسان فوجدته في النبي محمد” -صلى الله عليه وسلم- كما ذكرت ذلك المؤرخة الألمانية زيغريد هونكه في كتابها القيم “شمس اللّه تسطع على الغرب” وقال الشاعر السياسي الفرنسي لامارتين في كتابه “السفر إلى الشرق”: “من ذا الذي يجرؤ على تشبيه رجل من رجال التاريخ بمحمد، ومن هو الرجل الذي ظهر أعظم منه؟”. ومن قبل هؤلاء جميعا الذين اهتدوا إلى عظمة سيدنا محمد – عليه الصلاة والسلام- وكماله؛ وجّهنا الله – عز وجل – الذي يعلم من خلق إلى أن نتأسّى ونقتدي بسيدنا محمد – عليه الصلاة والسلام – فقال سبحانه وتعالى: “لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة”.

إن أنبياء الله ورسله هم المصطفون الأخيار من عباده، ونحن المسلمين نؤمن بهؤلاء الأنبياء والرسل جميعا، ولا نفرق بين أحد منهم، وإيماننا بالإسلام وبسيدنا محمد – عليه الصلاة والسلام – مرفوض ومردود علينا ما لم نؤمن بهؤلاء الرسل والأنبياء جميعا، من قصّهم الله في القرآن الكريم ومن لم يقصصهم، وكم هو جميل ورائع ذلك القول المنسوب إلى المفكر الألماني جوته، وهو “ربحت محمدا ولم أخسر المسيح (1)“، ولا يقول هذا إلا من كمل عقله، وانشرح صدره للحق، وسليم من التعصب الأعمى، وإذا كنا لم نتأكد من إسلام جوته فقد يكون كمؤمن آل فرعون الذي كتم إيمانه.. حذر الأذى، وإلا فما معنى قوله: “عليكم أن تدرسوا تاريخ الأديان كما درسته أنا على مدى خمسين سنة، وإن العقائد التي يربّى عليها المسلمون لتدعو لأعظم دهشة، تقوم في أساسها على الإيمان بأنه لن يصيب الإنسان إلا ما كتبه الله ((()))))(2)“.. “إن الإسلام لهو الرأي الذي سنقرّ به نحن جميعا إن عاجلا أو آجلا” (3)، و”لا يسعني أن أقول أكثر من أني أحاول هنا أيضا أن ألوذ بالإسلام (4)“.

.

سيدنا عيسى ليس مثالا أعلى للإنسانية:

إن سيدنا عيسى – عليه السلام – هو آية من آيات الله – عز وجل – فهو ولد من غير أب، وكلّم الناس – بإذن الله – في المهد، ومن أولي العزم من الرسل، وأحيا الموتى وشفى المرضى، بإذن الله، وأُنزل عليه كتاب حرّفه الذين جاءوا من بعده من أتباعه، وأنزل الله – عز وجل – عليه مائدة لإفحام مجادليه… ومع ذلك كله وكثرة المنتسبين إليه فإنه لس مثالا أعلى للإنسانية، فضلا عن غيره من الرسل والأنبياء، والقادة والزعماء والعلماء وذلك لأن “حياته – كما يقول العالم الفرنسي جوستاف لوبون – مجهولة تقريبا”؛ بل إن الدارسين الغربيين يعتبرونه شخصية “خرافية” ليس لها وجود، وأنه لم يتخذ صاحبة، ولم يكن له والد ولا مولود، ولم يكن له أصهار ولا أعمام، ولا أولاد أعمام، ولم يتعامل مع الناس في بيع ولا شراء، ولا سيّر أناسا، ولا قاد معركة.. بل “لم نقرأ أن المسيح قد ضحك ((5)“… ولا تخرج حياة الناس عن هذه المجالات، ومن حكمة الله – عز وجل – في خلقه أنه جعل بعضهم لبعض فتنة، ولكل فئة أسلوب معاملة.. وجملة أخلاق.. وما قيل عن سيدنا عيسى – عليه السلام – يقال عن الأنبياء والرسل الكرام الذين لا نعرف عن حياتهم في جميع الميادين إلا قليلا، وهو ما ورد في القرآن الكريم، بينما الرسول الوحيد الذي نعرف حياته من مهده إلى لحده، ومع أزواجه، وأعمامه، وأولاده، وأصحابه، وأعدائه، في حربه وسلمه، في صحوه ونومه، في خارج بيوته وداخلها، هو محمد – صلى الله عليه وسلم – حيث “نجد التاريخ بدل الظلام والغموض (6)” كما يقول المستشرق ر.ف.بودلي.

لقد تبين الرشد من الغي، وقد آن للإنسانية أن تتحرر من الأهواء والتعصب، وتتبع محمدا بعد أن تعترف أنه – عليه الصلاة والسلام – هو “أعظم عظماء التاريخ (7)” كما أكد أكبر مؤرخ للحضارة البشرية في القرن العشرين وهو المؤرخ الأمريكي وِل ديورنت، صاحب الكتاب الموسوعي “قصة الحضارة”.

إن الاعتراف محمد – صلى الله عليه وسلم – هو اعتراف واعتناق للدين الذي جاء به، لأنه – كما قول لامارتين – “هو الدين الوحيد الذي استطاع أن يفي بمطالب البدن والروح معا، دون أن يعرّض المسلم لأن يعيش في تأنيب الضمير.. وهو الدين الوحيد الذي عباداته بلا صور، وهو أعلى ما وهبه الخالق لبني البشر (8)“، و”إن في بقاء الإسلام أملا للعالم كله” (9) كما يؤكد أكبر فيلسوف للتاريخ البشري في عصرنا، وهو المؤرخ والفيلسوف البريطاني أرنولد توينبي.. ورحم الله شاعرنا – ذا الأصل الجزائري – الإمام البوصيري القائل عن سيدنا محمد -عليه الصلاة والسلام-:

فاق النّبيين في خَلق وفي خُلق ولم يدانوه في علم ولا كُرم

فمبلغ العلم فيه أنه بشر وأنه خير خلق الله كلّهم

والسؤال المطروح على من يسيّرون شؤون هذه الأمة بغير مبادئ دينها، جاعلين من أنفسهم أصناما لها، وأمثلة زائفة لتقتدي بهم، هو: متى تنتصرون على أهوائكم، وتتغلبون على شهواتكم، وتخرجون من غيّكم، وتتحررون من بهيميتكم، وتبصرون حقائق دينكم وتعقلونها، وتتخذون محمدا – عليه الصلاة والسلام – أسوة حسنة فيما تأتون وفيما تَذرون؟

.

هوامش:

) جائرة السبيل: منحرفة المقصد، والعبارة للأديب أحمد حسن الزيات.

1) ماري سركو السكيف: الامتيازات الأجنبية وانعكاساتها الاقتصادية والاجتماعية على سوريا… الهيئة العامة السورية للكتاب. ص277.

2) كاترينا مومزن: جوته والعالم العربي.. (عالم المعرفة. 194) ص 225.

3.4) المرجع نفسه.. ص223.

5) كارين أرمسترونج: محمد. ص81.

6) عبد المعطي الدالاتي: ربحت محمدا ولم أخسر المسيح.. ص112.

7) المرجع نفسه… ص111

8) المرجع نفسه: ص 115.

9) المرجع نفسه: ص116

مقالات ذات صلة