الرأي
رؤية استشرافية من أجل الجزائر

مراجعة ملحة لسياسة “الشؤون الدينة”

محمد سليم قلالة
  • 2346
  • 21

بالرغم ما لمكانة الإسلام في الجزائر من تأثير أكيد ليس فقط على مسار المجتمع، إنما أيضا على مسارنا الاقتصادي والسياسي والأمني، بل على مستقبل الدولة كوجود، إلا أننا مازلنا نتعامل معه في نطاق ضيق نسميه “الشؤون الدينية”، نرى الاهتمام به أقل إلحاحا من حل إشكالات تتعلق بتدني أسعار النفط، أو البطالة أو سكنات “عدل” أو حتى الرياضة والفن أحيانا، في حين تقول النظرة الاستشرافية العميقة أننا لا يمكننا أن نصوغ مستقبل بلادنا ولا أن نواجه التحديات القادمة والتهديدات الجديدة التي تلوح في الأفق بما في ذلك الأمنية والإقليمية والاقتصادية من غير مراجعة عميقة لما يُعرف بسياسة “الشؤون الدينية والأوقاف”…

المتابع لملف التعامل مع إسلام المجتمع الجزائري منذ الاستقلال، يلاحظ كيف كان يُنظر له على هامش رسم استراتيجيات التنمية الاقتصادية والاجتماعية. لم يلاحظ أنه تم في مرحلة من المراحل اعتباره محور الرؤية المعتمدة للدولة والمجتمع،  كان باستمرار جزء امن سياسة، أو بعيدا عن الحياة السياسية تماما أو هوشؤون دينية“…

غداة الاستقلال تم اعتماد الاشتراكية كأسلوب حياة، باعتبارها النقيض للرأسمالية التي كانت الثورة التحريرية أنذاك تسعى للتحرر من نظامها الاستعماري، وتمكنت من ذلك. كان المبرر في تلك الفترة أن قرون الانحطاط التي عرفها العالم الإسلامي منعت من بروز بدائل حقيقية تستطيع أن تعوض المشروع الاقتصادي والاجتماعي الذي كان مطروحا أنذاك من قبل الاشتراكيين. وبدل الدفع باتجاه تشجيع حلول مبتكرة انطلاقا من خصائصنا الاجتماعية والثافية ازاء تلك المحاولات الفكرية التي ظهرت هنا وهناك، وتلك الأدبيات التي سعت جاهدة لتأكيدإشتراكية الإسلاموإشتراكيةأبي ذر الغفاريرضي اله عنه، وللتبشير بأن لا تناقض بين الاسلام والاشتراكية. وفي المقابل تم منع أي بروز للتيار المناهض للاشتراكية وللأطروحات التي كانت ترى أن الاسلام نظام اقتصادي واجتماعي وكذا سياسي (دين ودولة) وليس دينا بين الانسان وربه وكفى.

ويعلم جميع من عاش تلك الفترة كيف كان المحيط المحلي والاستقطاب الدولي بين المعسكرين الشيوعي بقيادة الاتحاد السوفياتي والرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة يمنع أي تطور لنقاش محلي بهذا الاتجاه. فإما اشتراكية مرادفة للانتماء إلى قطب معين أو الرأسمالية التي تساوي الانتماء لقطب ثان رغم بعض المحاولات التي بقيت محدودة لدى البعض لصوغ مشروع اشتراكية وطنية لا علاقة لها بالاشتراكية العلمية أو ذات الجذور الماركسية الشيوعية الإلحادية كما يطرح الرئيس الراحل هواري بومدين في تلك الفترة.

وأسفر هذا الاستقطاب على اعتبار كل مناد بحلول مستمدة من الإسلام، ولو كانت غير متبلورة، رجعيا تنبغي محاربته، وتم الربط بين الرجعية والإمبريالية الرأسمالية، واعتبر المدافعون عن التوجه الإسلامي حلفاء للإمبريالية والاستعمار، وتم الزج بالكثير منهم في السجون كما في الجزائر وأعدم آخرون كما في مصر.

ولم تستمر حقبة الاشتراكية سوى عن انسداد أفق في المجالات الاقتصادية والسياسية أضف إلى ذلك الانفتاح الاضطراري والمفروض على الديمقراطية. وقد بات في حينها واضحا أن الديمقراطية القادمة من الغير، المفروضة بطريقة أو بأخرى من قبل النظام الرأسمالي بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، إنما كانت تحمل الكثير من المخاطر، ليس فقط على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي، إنما أيضا على صعيد الصراع مع القيم المحلية.

وهو ما حدث بالفعل، حيث تكررت ذات التجربة التي كانت مع الاشتراكية. تم إبراز اتجاه يتحدث عنديمقراطية الإسلاموعن عدم وجود  تناقض بينه والديمقراطية في أي مستوى كان، إلا أن المسار هذه المرة أخذ اتجاها آخر عندما تم تشكيل أول حزب يضع مرجعيته الإسلام في الجزائر ولا مرجعية غيرها: الجبهة الإسلامية للانقاذ، ويطرح بالإضافة إلى بديله السياسي بديلا اقتصاديا واجتماعيا على المجتمع ومشروع دولة إسلامية في الجزائر.

ولما لم تكن السلطة أنذاك مستعدة لتقبل هذا البديل أو استيعابه أو صوغه ضمن استراتيجية وبرامج عمل رفضته بالقوة رغم الشعبية التي عرفها مما أسفر صراعات داخلية ذهب ضحيتها عشرات آلاف من الجزائريين وأنتجت ما عٌرف بفصل الدين عن السياسة ومنع الأحزاب من أن تتشكل على أساس اللغة أو الدين أو العرق.

وعلى ضوء ذلك، تشكل ما يعرف اليوم بسياسة الشؤون الدينية والأوقاف، وتحددت الآليات التي ينبغي أن تشتغل بها والأهداف التي ينبغي ان تحققها.

لم تعد المسألة اليوم تُطرح على أساس: هل ينبغي أن يكون الإسلام منطلقا لسياستنا الاقتصادية والاجتماعية ولتشكيل طبيعة نظامنا السياسي. لقد بات وكأن الأمر أصبح محسوما في جانب الخيارات الاقتصادية والسياسية وحتى الثقافية أحيانا، ولم نعد نسمع حتى بأدبيات تتحدث عن ديمقراطية الإسلام، أو عدم تناقضه مع الديمقراطية، باعتبار أن المسألة لم تعد اليوم محل نقاش، وكأننا سلمنا بانتصار النموذج الغربي اصبحت مشكلتنا الأساسية كيف لا يُصبح الإسلام مرادفا للإرهاب، وليس كيف ينبغي أن يكون بديلا للديمقراطية.

تحول كبير، وحاد في ذات الوقت. لم يبق الغرب أمامنا اليوم حتى امكانية مقارنة أنفسنا بالاشتراكية أو الديمقراطية. لقد حدد دالة النقاش بالنسبة لنا ما في مجال محدد بين مع الإرهاب أو ضد الإرهاب. لا إمكانية لنا في رسمها خارج هذا المجال. كل إحداثيات المسار هي محددة سلفا بالنسبة لنا بما في ذلك خياراتنا الثقافية والإعلامية، ناهيك عن الاقتصادية والسياسية.

هل هي ذي نتيجة سياسة عدم قدرتنا على الانطلاق من إسلامنا لبناء مشروع المجتمع، أم هي نتيجة ما سميناه بإبعاد الدين عن السياسة، أو عن الحياة الحزبية؟

يبدو أن الأمر يتعلق بهذه المسائل مجتمعة.

سياستنا في ما أسميناه بـالشؤون الدينيةهي التي أوصلتنا إلى هذا الموقف. لم يعد بإمكاننا الانطلاق من خصائصنا الذاتية لتقديم الحلول للمشكلات المطروحة. لا يخطر ببلانا أننا يمكن إيجاد حلول لضائقتنا الاقتصادية انطلاقا من مقوماتنا الذاتية. كما لا يخطر ببالنا أننا يمكن أن نعيد التفكير في حلول لمشكلاتنا انطلاقا من مقوماتنا الذاتية.

أليس من الممكن أن تصبح الزكاة أساس التضامن الاجتماعي  والأسري بدل سياسات قائمة على أساليب تقليدية أثببت فشلها أكثر من مرة من خلال هيئات ووزارات مختلفة. لماذا نُبقي موضوع الزكاة محصورا في نطاق صندوق ضيق ولا نطرح ضمن أفق أرحب، مؤسسة شعبية مستقلة قائمة بذاتها من المجتمع وإليه؟ ما الذي يمنع اليوم هذا النوع من التفكير بعد ما عجزت مختلف الآليات المعتمدة على حل إشكالية التضامن الوطني وتسببت في خسارة الملايير من الدينارات نتيجة الإهمال او التسيب أو سوء التسيير أو الاختلاس في وضح النهار؟

أليس من الممكن إعادة التفكير في رسم سياسة وطنية للأوقاف تقيم ركيزة وطنية جدية للاقتصاد الوطني بعيدا عن آليات اقتصاد السوق التي أثببت هي الأخرى محدوديتها وفشلها في إشراك المجتمع بفعالية في التنمية؟

ما الذي يمنع من استبدال سياسة التكوين الحالي في المجال الديني بسياسة أخرى تعيد للإمام دوره في المجتمع وتسمح له بأن يكون مؤهلا للمشاركة في السياسة الاقتصادية والاجتماعية على المستوى المحلي والمركزي بدل إبقائه محصورا في نطاق ضيق لا يُسمح لها حتى بالصلاة على جنازة كبار المسؤولين؟

أليست بلادنا اليوم في حاجة إلى العودة إلى الذات في جميع المناحي الدينية والثقافية والتاريخية وغيرها لمواجهة التحديات الكبيرة والتهديات الجديدة التي تعرفها؟

 

ألسنا بحق في حاجة إلى العودة إلى الإسلام لقراءة دوره في المجتمع قراءة صحيحة؟ أم أننا سلمنا الأمر واكتفينا بتسيير الشؤون الدنينية والحركة في المجال المحدد: مع أو ضد الإرهاب؟ مع أو ضد شارلييا له من زمان.

مقالات ذات صلة