جواهر
تقطير الورود والزهور عادة قديمة تؤرخ لأصالة المنطقة

“مرش الزهر”.. سلطان صينية القهوة القسنطينية

جواهر الشروق
  • 10803
  • 0
ح.م

وَسْط الدار، السقيفة، الدّاير، المجلس، صينية القهوة، أنغام المالوف والزندالي وعبق الورود، متلازمات تُعتِّقُ ذاكرة المخضرمين من قسنطينيات الزمن الجميل، فينتثر أريجها حكايا تروى على مسامع الأجيال، وتؤرخ بعفوية لعراقة مدينة الصخر العتيق، و”نوستالجيات” تُودِقُ لها المآقي، وتتصاعد لأجلها الزفرات..

مشهد اختصرته لنا تقاسيم السّيدة فلة، وهي تسترجع عادة من عادات القسنطينييات الأصيلة في فصل الربيع، والمتمثلة في تقطير الورود والزهور.

الربيع.. نشاطات متنوعة وتقطير الورود الأقدس

تروي السيدة فلة لـ”جواهر الشروق” عن عادات القسنطينيات وكيفية استقبالهم لفصل الربيع فتقول: “فصل الربيع هو موسم لبداية الأفراح، كنا ننتظره بشغف طوال فصل الشتاء، حيث تبدأ التحضيرات له مسبقا بشراء الملابس الربيعية، وتحضير السميد الجيد، ومعجون التمر أو ما يسمى غرس البطانة لصناعة حلوى البراج”.

أما بخصوص تقطير الورود فهي العادة الأكثر قدسية لدى القسنطينيات، إذ تقول محدثتنا:” صينية القهوة القسنطينية، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تخلو من مرش ماء الورد أو ماء الزهر المقطر في البيوت، كما أنه سر النكهة المميزة لحلوياتنا التقليدية الشهيرة، كالبقلاوة والصامصة وطمينة اللوز…”

ومن جهته يعود الحاج سي الحسين عقودا إلى الوراء، عندما كان بائعا للورود والزهور بسوق العصر، فينعش مسامعنا بزخات من غيث الأصالة إذ يقول: لقد اشتهر القسنطينيون بحبهم للنباتات، وزراعة أنواع الزهور وأشجار الورد، سواء الساكنين في بيوت ذات طابع تركي قديم أو في الفيلات الفرنسية، ومع بداية شهر أفريل تكون الورود قد تفتّقت من أكمامها، وفاح عطرها عبر أرجاء الشوارع والممرات، لكن التقطير لا يكون إلا مع نهاية هذا الشهر” وبرر ذلك بقوله : ” ليس من الذوق قطف الورود في أيامها الأولى؛ بل نتركها لتزين المحيط إلى أن يقترب موعد ذبولها، وتبدأ في إسقاط بتلاّتها، وعندها يبدأ أصحاب الجنائن بقطفها وبيعها، فتشتري العائلات حاجتها منها من أجل تقطيرها”.

ومن أشهر أنواع الزهور المستعملة، حسب ما أفاد به الحاج سي الحسين: زهر البرتقال والليمون والنارنج والأترج والتفاح والسفرجل وغيرها من الحوامض، كما تقطر أنواع أخرى من الزهور، لكنها تستعمل في التطبيب والتجميل فقط، أما بالنسبة للورود فأحسن نوع للتقطير هو الورد المعروف بلونه الوردي الفاتح ورائحته الزكية.   

نبذة تاريخية عن تقطير الورود

يعود تاريخ تقطير الورود إلى عصور قديمة جدا، وحسب ما جاء في العديد من المصادر؛ فإن المصريين القدامى هم أول من توصل إلى تقطير الورود والأزهار، وذلك بوضعها في لوحة كبيرة من ورق البردي له طرفان تمسك به سيداتان، ويضاف إليه قليل من الماء في داخل اللوح، ثم تدور كل سيدة الطرف الذي تمسك به عكس اتجاه السيدة الأخرى، فيتم عصر الورود، ويوضع تحتهما إناء كبيرة ليسع الكمية المعصورة ثم بعد ذلك تحفظ في أواني خزفية، وكان يصنع للملكات وزوجات الأمراء والكهنة للتعطر به عند الاحتفالات، قبل أن تكتشف فوائده العظيمة الأخرى.

وللقسنطينيات بصمتهم الخاصة

ولمعرفة الطريقة التقليدية التي تستعملها القسنطينيات في تقطير الورود، عدنا إلى السيدة فلة التي لم تدخر جزئية إلا وأفادتنا بها حيث تقول: “كانت النسوة تجتمع في يوم يتم الاتفاق عليه، وتحضر لذلك اليوم حلويات خاصة، وتقوم إحداهن بإعداد صينية القهوة وإخراجها، ونجتمع في وسط الدار- وهو مساحة مشتركة بين كل الجيران كانت تتميز به أغلب منازل الأحياء القسنطينية القديمة-  ويكون لذلك اليوم طعم خاص وتنتشر رائحة الورود من كل صوب، وقبل أن أطلعكم على طريقة التقطير لابد من معرفة الفرق بين الورد والزهر؛  فبالنسبة للورد لا نستطيع الإحتفاظ به لمدة طويلة قبل التقطير، لأن ماء الورد يستخلص من “الورد التّار” أي حديث القطف وغير الذابل، بينما ماء الزهر يستخلص من الزهور الذابلة والتي يجب نشرها على ستار أو قطعة قماش حوالي ثلاثة أيام في الظل، ومكان معتدل الحرارة حتى تذبل، وبعد هذه المرحلة تأتي مرحلة البدء في التقطير”.

 وتواصل السيدة حديثها بشرح الطريقة تقول: “نضع القطّار ( إناء التقطير) على النار بعد وضع كمية من الماء في وعائه الداخلي بقدر الثلث، ثم نضيف كمية الزهر ونغلقه بإحكام، ثم نملأ الإناء الخارجي بالماء، ونتركه على نار هادئة إلى أن نسمع فرقعات الغليان، ولا ننسى تجديد ماء الإناء الخارجي كلما سخن بماء بارد حتى نبلغ أقصى حد للتبخر، وبالتالي كمية أكبر من ماء الورد أو الزهر”.

طنجرة الكسكسي تحل محل القطّار

اعتمدت المرأة القسنطينية على أوان بسيطة في تقطير الورود، قبل أن تصنع له آنيته الخاصة من بينها  طنجرة الكسكسي، حيث تعتمد على تكثيف ماء الزهر أو الورد على سطح غطاء الطنجرة الداخلي، وتستدعي العملية صبرا كبير لأن الكمية تكون قليلة وتستغرق وقت طويلا نوعا ما.

نساء عصريات تصنعن الإستثناء وتحافظن على العادة

رغم ما وفرته المحلات في أيامنا هذه من أنواع المقطّرات الغذائية والجمالية، إلا أن هناك من النساء من لا تزال متمسكة بتلابيب عادة الجدات، وتأبى إلا إحياءها كل ربيع.

السيدة ليلى – 37سنة – واحدة من بين هؤلاء تروي لنا تفاصيل قصة عشقها لتقطير الورود فتقول: “تربيت عند جدتي، وكانت لا تستغني عن ماء الورد المقطر في البيت، ومنها تعلمت سر المهنة، وعندما بدأت أدرّس وجدت الكثير من أشجار الورد في المدرسة، فقررت أنا وبعض زميلاتي أن نستفيد منه، بدل أن نتركه لأيادي الأطفال يقطفونه ويعبثون به، فأصبحنا في كل فصل ربيع نقطفه ونقطّره.

وعلى خطى أمها وخالاتها سارت ليندا، فهي الأخرى وحسب ما ترويه، تطلب من زوجها أن يقطف لها أنواع الورود والزهور من حديقة أحد أصدقائه وتقوم بتقطيرها على أن تتقاسم الغلة مع زوجته.

استعمالات لا تحصى  

وحسب ما أفادتنا به السيدة فلة، أن أول كمية تفريغ لماء الزهر تسمى في قسنطينة ” برأس القطّار ”  تقول: “هي مفيدة جدا ومركزة، وثمنها يكون أغلى من الكميات الموالية لها، وكانت السيدات تحتفظن بها للإستعمالات المناسباتية، كحلويات الأعراس والأعياد، أما الكميات الأخرى فتستخدم في عدة مجالات، فكما سبق وقلت ماء الورد أو الزهر هو العنصر الأهم في توليفة القهوة القسنطينية، كما أن مرشّه النحاسي جزء لا يتجزء من ديكور صينياتنا التقليدية، بالإضافة إلى استعماله كعلاج للصداع خاصة الناتج عن ضربة الشمس، بوضع كمية على مكان الألم  وأيضا مزجه مع الماء وشربه للحد من الغثيان، أو كغسول للعيون الرمدة، ولتفتيح البشرة وتنقيتها من الشوائب مع الودعة وعصير الليمون. كما يتم تعطير البيوت به في المناسبات المختلفة”.

مقالات ذات صلة