-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

مسؤولية‮ ‬النظام‮ ‬ومسؤولية‮ ‬الأفراد

عابد شارف
  • 4939
  • 0
مسؤولية‮ ‬النظام‮ ‬ومسؤولية‮ ‬الأفراد

بينما يتحرك العالم بسرعة فائقة، تبقى الجزائر في موضع المتفرج الذي يكتفي باكتناز جزء من مداخيله واستهلاك الباقي دون حساب. وأصبح الكلام عن حسن التسيير قضية ثانوية لا يبالي بها إلا عدد قليل من المتتبعين الذين لا سلطة ولا رأي لهم. أما الذين يتصرفون في الأموال،‮ ‬فإنهم‮ ‬تعوّدوا‮ ‬على‮ ‬طريقة‮ ‬جديدة‮ ‬في‮ ‬التسيير،‮ ‬حيث‮ ‬يستعملون‮ ‬خطابا‮ ‬ويتصرفون‮ ‬بطريقة‮ ‬معاكسة‮.‬وأدى هذا الفصل التام بين الخطاب والأفعال إلى تبذير لا يحصى في الأموال العمومية. وانتقلت الظاهرة من أعلى إلى أسفل، في مختلف مستويات الهرم، لتؤدي إلى تقاسم في التبذير. وإذا كان عدد الموجودين في أعلى الهرم قليل، فإن قراراتهم تؤدي إلى ضياع مبالغ هائلة لأنهم يتصرفون‮ ‬في‮ ‬ملايير‮ ‬الدينارات‮. ‬أما‮ ‬الموجودون‮ ‬في‮ ‬أسفل‮ ‬الهرم،‮ ‬فإن‮ ‬عددهم‮ ‬عالي‮ ‬جدا،‮ ‬وإذا‮ ‬ضيع‮ ‬كل‮ ‬منهم‮ ‬دينارا‮ ‬واحدا،‮ ‬فإن‮ ‬المبلغ‮ ‬الإجمالي‮ ‬يصبح‮ ‬بدوره‮ ‬عاليا‮ ‬جدا‮.‬لكن إذا سألت أحدهم، فإنه يخاطبك خطاب العقل والعلم. فهذا وزير الفلاحة يتكلم عن ضرورة دفع الإنتاج الوطني للخروج من التبعية، لكن تصرفه منذ سنوات أدى إلى بروز سلسلة من الأزمة التي كانت الجزائر تعتقد أنها تجاوزتها نهائيا، مثل ندرة السميد والبطاطا والحليب وغيرها. وهذا وزير المالية يلح إلحاحا على ضرورة إقامة نظام مصرفي عصري متكامل يتميز بالفعالية الاقتصادية. لكن عمله الميداني، هو ومن سبقوه، أدى إلى منع الجزائريين من إنشاء بنوك، بينما فتحت الأبواب أمام البنوك الخارجية لتستولي تدريجيا على تسيير الاقتصاد الوطني.وكانت الجزائر تصرف أموالا كثيرة في الاستيراد، لكنها اليوم وضعت نظاما جديدا لتكلف البنوك الأجنبية في تسيير هذا الاستهلاك. وتم وضع شبكات قانونية لتحويل الادخار الوطني إلى الخارج، حيث دخل المجتمع الجزائري عالم القرض الاستهلاكي بقوة، وجاءت مع هذه الظاهرة بنوك أجنبية‮ ‬لتوجه‮ ‬هذا‮ ‬الاستهلاك‮ ‬مثلما‮ ‬شاءت‮. ‬وأصبح‮ ‬من‮ ‬الممكن‮ ‬اليوم‮ ‬شراء‮ ‬سيارة‮ ‬أجنبية‮ ‬بقرض‮ ‬من‮ ‬بنك‮ ‬أجنبي‮ ‬ينصح‮ ‬الشاري‮ ‬أية‮ ‬سيارة‮ ‬أجنبية‮ ‬يشتري،‮ ‬وعن‮ ‬قريب‮ ‬سيدفعه‮ ‬إلى‮ ‬تأمينها‮ ‬عند‮ ‬شركة‮ ‬أجنبية‮.‬هذا الوضع قائم في البلاد، لكن إذا استمعت لوزير أو مدير خلال ندوة، فإنه يعطي التحاليل الجادة. ويتكلم مسؤولو قطاع المالية بجدية عن انهيار قيمة الدولار وأثرها على القدرة الشرائية للبلاد، كما يتكلم مسؤولو الفلاحة عن آثار ارتفاع سعر البترول على سعر المواد الغذائية، وما تكلفه للخزينة العمومية إذا تواصلت وتيرة دعم الأسعار. ومن هنا يعرج الإخوة على إمكانيات البلاد لرفع إنتاجها من المواد الغذائية، وكيف سيؤثر ذلك إيجابا على الاقتصاد الوطني، سواء لامتصاص البطالة أو ارتفاع مداخيل المواطنين أو ارتفاع الدخل القومي للبلاد.وفي ميدان الصناعة، التي تراجعت ووقع فيها تفكيك للشبكات الإنتاجية، تسمع كلاما غريبا حول القرارات التي اتخذتها السلطة من أجل تشجيع الاستثمار، ووضع العقار تحت تصرف المستثمرين، ورفع العراقيل، إلى جانب المجهود الجبار لتشجيع الاستثمار الأجنبي. ويمدح القوم مزايا السوق الجزائرية، من وجود سوق كبيرة ويد عاملة ذات تكوين عالي وتحكم في اللغات والقرب من السوق الأوربية وغيرها من الكلمات الجميلة. لكن في الواقع، فإن كل هذه الإدارة القائمة على شؤون البلاد تبقى عاجزة عن توفير متر مربع واحد للمستثمر، كما أنها لم تستطع أن تضمن نضوج‮ ‬مشروع‮ ‬استثمار‮ ‬في‮ ‬وقت‮ ‬معقول‮. ‬وقال‮ ‬أحد‮ ‬المستثمرين‮ ‬إن‮ ‬المرحلة‮ ‬الإدارية‮ ‬لتكوين‮ ‬شركة‮ ‬ذات‮ ‬حجم‮ ‬متوسط‮ ‬في‮ ‬الجزائر‮ ‬يتطلب‮ ‬نفس‮ ‬الفترة‮ ‬التي‮ ‬يمكن‮ ‬في‮ ‬الصين‮ ‬أن‮ ‬يبدأ‮ ‬نفس‮ ‬المشروع‮ ‬مرحلة‮ ‬الإنتاج‮…‬وأكثر من هذا كله، فإذا تكلمت مع مسؤول جزائري على انفراد، خاصة أولائك الموجودين في الإدارات المركزية والدوائر القريبة من القرار، فإنك ستبقى مندهشا أمام ثلاث ظواهر. أولا، إنهم يعرفون الوضع جيدا، بتفاصيله وعيوبه، ويدركون جيدا أن ما يقومون به لا يفيد. ثانيا، إنهم يتكلمون كلام المعارض الراديكالي الذي يرفض ما تقوم به الوزارة، لكن “الله غالب”. وثالثا، فإن خطابهم متميز، وينبع عن خبرة، لكن الحلول التي يقترحونها تبقى في نفس النموذج البيروقراطي الذي فشل، وقد عاينوا فشله ميدانيا، لكنهم لم يستخلصوا الدرس.ويبقى اللغز مطروحا: كيف تمكن المسؤولون الجزائريون من إقامة هذا الفرق الشاسع بين الخطاب والواقع؟ كيف استطاعوا أن يصلوا إلى هذه الطريقة في التسيير التي تدفعهم إلى استعمال خطاب يعرفون أنه يختلف تماما عن الواقع؟ إن الكلام عن نظام فاسد أصبح غير كافي، ولا بد لهؤلاء‮ ‬أن‮ ‬يتحملوا‮ ‬مسؤوليتهم‮ ‬الفردية‮ ‬بطريقة‮ ‬أو‮ ‬أخرى‮.‬

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!