-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
من بعيد

مصر اليوم وبومدين… وجوهر الصقلي

مصر اليوم وبومدين… وجوهر الصقلي

هل يحتاج العرب إلى الدور المصري في هذه المرحلة من تاريخ الأمة؟ بعض من المراقيبن يرى أن لا ضرورة لطرح مثل هذا السؤال لعدة أسباب، أولها: أن الأمة العربية لم تعد موجودة من خلال صناعة الموقف وإثبات الوجود، وإنما هناك عرب أقليات في أوطانهم، وثانيا: أن مصر أيضا لم تعد موجودة لجهة اتخاذ موقف يبرر وجودها من ناحية التأثير في صناعة المستقبل العربي، فصانع القرار فيها ـ في هذه اللحظة التاريخية ـ تحكم فعله ورد فعله، ذكريات الماضي الجميل بدءاً من الحضارة الفرعونية وانتهاء بآخر الحروب في 1973، كما تحكم تصرفاته الفخر بالكثافة السكانية مزهوا بأن مصر تمثل ربع العرب، غير أن هذا كلّه لا يلغي إجابة السؤال السابق، بل يجعل من الضروري البحث عليه ولو ازداد الوضع مأسوية وسوءاً ورداءة.

  • قبل أن ننتهي إلى إجابة السؤال السابق، أعود إلى ما ذكرته في عدة مقالات في الصحف العربية خلال الخمس سنوت الماضية، وفي كثير من الجلسات بما في ذلك تلك التي جمعتني ببعض الدبلوماسيين المصريين، وهو: أن الثقة معدومة بين الدول العربية من جهة ومصر من جهة أخرى، وما نراه من مظاهر ودّ ومحبة مجرد تغطية عما بداخل الأنفس، والخلاف أساسا يقوم حول مسألة الدور، فلا المصريون يريدون من العرب أن يصبحوا دولا فاعلة وذات تأثير، لأن هناك اعتقاد مصري مفاده: أن أي فعل من العرب الآخرين ينقص من الدور المصري، ومن هنا يمكن لنا أن نفهم الحرب الإعلامية الدائرة الآن بين قطر ومصر، وهي لاتتعلق بخلفية أحداث غزة، وإنما هناك قلق مصري من صناعة أدوار بعيدا عن سلطة القاهرة، ما يعني أنه ليس مقبولا لدى مصر التخلص من التبعية، لكن هذا يصبح واجبا على العرب لو كانت مصر غير تابعة للأقوى خصوصا بعد احتلال العراق
  • مصر ـ في نظري بعد تجربة دراسة وعمل وحب يفوق التوقع وتفاعل مع المجتمع وقراءة لبعض من تاريخها وتفاعل مع دورها التاريخي ـ أكبر من أن تختصر فيما هي فيه الآن، إذ علينا أن نلجأ في أي حكم عليها إلى رسالة التوحيد، معتمدين في ذلك على ما روي عن الرسول، عليه الصلاة والسلام، فقد جاء في »كنز العمّال للمتقي الهندي«، وفي »فتوح مصر لابن عبد الحكم« عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى عليه وسلم: »إذا فتح الله عليكم مصر فاتخذوا فيها جندا كثيرا فذلك الجند خير أجناد الأرض«، فقل له أبوبكر: ولِمَ يا رسول الله؟، قال: »لأنهم وأزواجهم في رباط إلى يوم القيامة«.
  •  إذن علينا أن نتوخى الحذر ونحن ننتقد الفعل السياسي الحالي لمصر، لأننا مهما حاولنا هي الحماية وقت الشدة حين تعود إلى رشدها، وأنا من المقتنعين بأن ذل مصر أو هزيمتها أو تراجع دورها، ذل وهزيمة وتراجع لكل العرب، وهو ما نراه جليّا اليوم، وعزتها وانتصارها لنا جميعا، ولن تقوم للعرب بخصوص قضاياهم القومية الكبرى قائمة إلا بصحوة مصر، لهذا كلّه أعيد التأكيد على أهمية الفرز بين ماهو سياسي، وما هو حضاري.
  • من ناحية أخرى فإن النقد الموجّه لمصر هذه الأيام يثبت دورها وأهميتها بالنسبة للعرب جميعها، ولن تستطيع أن تتخلى عن هذا الدور حتى لو حاولت، والتراجع عندها له تأثيره السّلبي على العرب، لكن تأثيره المباشر عليها هي قبل الآخرين… هنا علينا التحدث عن ضرورة أن تعي أدوار الآخرين، لجهة الخروج من الوهم، إذ من غير المقبول أن ترى في أي نشاط يقوم به الآخرون تناقضا أو تعارضا مع دورها، وما تواجهه قطر من حملة ضدها مرفوضا مهما كانت المبررات، والاستهانة بدور جزر القمر أو الصومال فعل غير مسؤول مهما كانت الدوافع، حتى لو اعتبرناه زلاّت لسان من المسؤولين.
  •  عمليا، لنبني علاقات عربية جديدة في المرحلة الرّاهنة علينا الخروج من الشوفينية الوطنية التي ترفع شعار الدولة القطرية، بحيث لا يكون بديلا عن الأمة، ثم ان رفع هذا الشعار بصدق يعني في مضمونه الاهتمام بواقع الأمة كما أشار إلى ذلك المفكر الفلسطيني »عزمي بشارة«، وما حدث في حرب غزة وما بعدها يكشف عن هوة واسعة ولكن ليست بين القاهرة والعرب، وإنما بين كل الحكام العرب وشعوبهم، وبما أننا في معظمنا عاجزون عن مواجهة هذا الحاكم أو ذاك أو منشغلون بتثبيته في الحكم إلى أن يقضى أجله، فعلينا أن لا نهرب من المواجهة إلى الحرب الإعلامية ضد مصر.
  •  ليعلم صانع القرار في مصر أن لا أحد في مقدوره أن يفتك العرب من قيادة مصر، ولا أحد ينافسه الزعامة، لكن أيضا لا أحد يقبل أن تضل الطريق وتضل الأمة بالكامل معها بحجة واهية هي أولوية الوطن على حساب الأمة… هنا يحضرني موقف للرئيس الراحل هواري بومدين، الذي حسب بعض الروايات قال يوما للزعيم الراحل جمال عبد الناصر، حين علم بقرار اتّخذه يخص الأمّة العربية ولم تبلّغ به الجزائر، فقد أرسل إليه بومدين قائلا: »هنالك جوهر الصقلّي واحد في التاريخ، وأنا لا أريد أن أقوم بدور جوهر الصقلي مرة أخرى، ولا ننافس القاهرة على زعامة العرب، لكن الجزئر لا تقبل باتخاذ أي قرار يخص العرب دون علمها«. للأسف، الجزائر التي يتحدث عنها بومدين اليوم غير موجودة، ولا مصر عبد الناصر موجودة، ولا عراق حسن البكر وصدام حسين موجود ولا سعودية فيصل موجودة.
  •  من ناحية أخرى، فإن على العرب اليوم تصحيح صورة لطالما صدّرها الإعلام المصري، ركّز عليها صانع القرار، مفادها: أن مصر تخلّت على العرب، والحقيقة أن العكس هو الصحيح، ولنسأل متى تخلى العرب عن مصر؟، وفي أي موقف وفي أي لحظة تاريخية؟، هل تخلوا عنها أيام الهزيمة؟ هل تخلوا عنها أيام حرب أكتوبر؟
  • بالمقابل مصر أيضا كانت سبّاقة إلى دعم الثورات العربية وهي في بداية نشأة الجمهورية بعد انتصار ثورة الضابط الأحرار، فقد دعمت بكل ما أوتيت من القوة الثورات في المغرب العربي وخاصة الثورة الجزائرية، وساعدت أهل الخليج في نشر المعرفة، ودورها في اليمن معروف، وبعيدا عن أي حكم قيمي لجهة ما قامت به، فقد وصل نشاطها إلى مواقع الثورات في أفريقيا وآسيا.
  • اليوم لا أحد يمكن أن ينكر انسلاخ مصر من تاريخها، لكن هذا ليس حالا خاصة بل ظاهرة عامة تخص كل العرب، وحملات التضليل التي تنكر النضال اليومي للشعب المصري ضد كل مشاريع الهيمنة الغربية ستؤدي إلى تزييف الوعي، ولو شعب عربي آخر من المحيط إلى الخليج أقامت حكومته سلاما مع الكيان الإسرائيلي، وأجبرته على القبول به لسلّم بالأمر الواقع، لكن معظم المصريين يرفضون وجود إسرائيل الثقافي وليس فقط المادي… المهم هناك حرب على مصر، فقد قص جناحها الأول من خلال الإرهاب في الجزائر، وقص جناحها الثاني باحتلال العراق، والدور القادم عليها، وستكون النهاية القضاء على قلب العرب بأساليب شتى، وصانع القرار في مصر اليوم يساهم فيها بوعي أو بدونه
  • يبدو أن الصورة وضحت الآن، فالعرب في حاجة إلى الدور المصري، بغض النظر عن حسابات القاهرة الآنية، لكن الإجابة لم تكتمل فمن لا أخ له كساعي إلى الهيجاء بغير سلاح، ولا يمكن للدور المصري أن يحقّق هدفه المنشود إلا بقبول ورغبة ودعم عربي، وإلا فالأمة العربية تتجه نحو الغرق، وأعتقد أننا بدأنا نقترب من القاع، ومصر يريد لها الغرب وخصوصا أمريكا وإسرائيل أن تظل كالإسفنجة لا تعلو على سطح الماء ولا تغرق، لكنها إن استمرّت على هذه الحال ستغرق لحمولتها الثقيلة، ولحظتها لا يمكن أن نوجه إليها النقد، لأننا سنغرق قبلها.
أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!