-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

معالم الاقتداء في شخصية أبو القاسم سعد الله

بن يغزر أحمد
  • 903
  • 0
معالم الاقتداء في شخصية أبو القاسم سعد الله
أرشيف
أبو القاسم سعد الله

يمثل المؤرخ أبو القاسم سعد الله (2013-1927) رحمه الله بالنسبة لقطاع واسع من الباحثين والمثقفين نموذجا للباحث الجاد، والمثقف الرسالي، يتساوى في هذه القناعة من تتلمذ على يديه بالجامعة واحتك به بشكل مباشر، أو من قرأ كتبه ومقالاته وتتبع سيرته وأعماله حتى لو لم يلقَه يوما.

يعدّ سعد الله واحدا من الباحثين المخضرمين الذين تداخلت عوامل عدة في تكوين شخصيتهم الفكرية، فهو من حيث الزمن عاش فترة الاحتلال ومرحلة الاستقلال، وعهد الأحادية الحزبية المغلق وفترة الانفتاح السياسي، ومن حيث المكان هو من مواليد جنوب الجزائر حيث نهل من منابع الثقافة المحلية الأصيلة، درس في تونس والقاهرة، وتدرَّج في الدراسات العليا في الولايات المتحدة الأمريكية، واشتغل أستاذا وباحثا في عدة جامعات داخل الوطن وخارجه.

انعكس هذا التنوُّع في مصادر التكوين وأشكال التفاعل بصورة واضحة في الإنتاج المعرفي الذي خلَّفه سعد الله، وكذلك في المواقف التي كان يعبِّر عنها اتجاه مختلف القضايا التي تفاعل معها سواءً في التاريخ وهو مجال عمله الأساسي، أو في غيرها من المجالات التي كانت تُطرح أمامه ويبدي فيها مواقف وآراء.

لقد أعطته هذه المواصفات نوعا من التميز، وصنعت له رواقا خاصا ومتميزا في مضمار الثقافة الجزائرية، ومنحت لأفكاره ولمواقفه الكثير من العمق والرحابة والقبول بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معه فيها، وكان صدور كتاب له، أو نشره لدراسة أو لمقال بمثابة حدث ثقافي وفكري يجذب الاهتمام، ويفتح أفقا للحوار والنقاش.

ولهذا، فإن الوفاء لسعد الله رحمه الله ولمثله من العلماء والمثقفين يكون باستخلاص الميزات العلمية والشخصية التي جعلته يستحق هذه المكانة، ويؤتى تلك القدرة على الإسهام النوعي الذي قدمه للثقافة الجزائرية بشكل عام، والمعرفة التاريخية بشكل خاص، ومن المهم هنا التنبيه إلى أن إسهام سعد الله لم يكن يسيرا، ولم تكن الظروف المحيطة بالرجل مشجعة ولا مريحة، وقد كان يقول “أن الكتابة في الجزائر معجزة”، ويمكن الاطلاع على نماذج من المعاناة التي عاشها في مسيرة البحث والكتابة بمراجعة كتاب يومياته “مسار قلم” بأجزائه الستة.

يحاول هذا المقال أن يستنبط أهم السمات الذي يمكن أن تكون معبرة عن شخصية سعد الله وعن فكره، وعن الخلفية التي كانت تضبط ما كان يصدر عنه من أراء ومواقف وتقديرات علمية، سواء عبَّر عنها بشكل واضح، أو هي متضمنة في المعرفة التي كان ينتجها، أو من خلال الانطباعات التي تتشكل عند من يقترب منه طالبا أو محاورا أو دارسا أو زميلا، ولا شك أن مقالا مثل هذا لا يمكن أن يحيط بكل ما يندرج تحت هذا الهدف، ولذلك سنقتصر على ذكر أهمها وأكثرها بروزا من وجهة نظر كاتب هذا المقال.

الإخلاص للبحث العلمي:

كان الأستاذ سعد الله يمارس الكتابة والبحث بكل الإخلاص الممكن، يحرص وهو يفعل ذلك أن يتجرد للرسالة التي نذر نفسه لها، والتي كان يعتقد أنه خُلق من أجلها كما كان يقول، ومن أجل ذلك كان حريصا أن يصرف كل وقته وجهده في أدائها، كما اجتهد في تعقُّب وفحص كل المصادر والمواقع التي تساعده في إنجازها، فكان يسافر إلى المكتبات الكبرى، ومراكز الأرشيف العالمية، ويعاين المخطوطات الدفينة في مواقعها، وخلال كل ذلك كان حريصا على التدوين والكتابة رغم صعوبة المهمة.

كتب يقول: “قلمي لا يهدأ له بال، ولا يستقر له حال… فالكتابة عندي هي دوائي وهي دائي، هي غذائي وهي هوائي، فإذا كتبت رضيت عن نفسي وإذا لم أكتب سخطت عنها ومر اليوم كأنه سرق من عمري” وينصح طلبته: “اكتبوا حتى بأهدابكم وأظافركم إذا لم تُطعكم أقلامكم، ثم اذهبوا إلى ربكم وأنتم راضون أنكم قمتم بمهمتكم الفكرية والإنسانية”.

ولعل من أهم مؤشرات هذا الإخلاص أن سعد الله عمل أن لا يشغله أي شاغل عن المهمة العلمية، فكان يرفض بأدب ولكن بحزم كل عروض المناصب مهما علت، كما كان يرفض الانخراط في الأنشطة الفولكلورية والتي تستهلك الوقت والجهد والمصداقية لكن ليس لها في المحصلة النهائية عائدٌ علمي مؤكد وواضح.

الحرص على الاستقلالية:

لقد كان سعد الله يرى أن الاستقلالية الفكرية هي رأسمال الباحث الذي يعطي لأرائه ومواقفه مصداقيتها، ويحميه من كل الضغوط، ويحصنه من كل الإغراءات، ومع ذلك فإنه لم ينجُ من محاولات القولبة والتصنيف، فيقول: “بعضهم قد صنفوني من مؤرخي السلطة على أساس أنني أكتب عن قضية الشعب الجزائري، فهؤلاء يطلبون مني أن ألعن السلطة لكي أكون مؤرخا حقيقيا. وبعضهم صنفني مؤرخا ضد السلطة لأنني لا أمتدحها ولا أشيد بمواقف رجالها، بل انتقدها ضمنيا تارة وصراحة تارة أخرى”.

ثم يحدد موقفه بوضوح من هذه المسألة وخصوصا من الاقتراب من السلطة: “… فالمؤرخ يجب أن يكتب عن مسيرة وليس عن سلطة، عن قضية شعب وليس عن نزوة حاكم، وكما يبحث الإنسان عن الخلود في النصب التذكارية والأضرحة المحصنة والمساجد الفاخرة والأوقاف القائمة، كذلك يبحث المؤرخ عن الخلود في مواقفه الثابتة وآرائه الصادقة. والخلاصة أن مؤرخي السلطة سرعان ما ينطفئون بانطفاء السلطة التي تمدّهم بالطاقة الضوئية، أما المؤرخ الموضوعي فيستمد طاقته الضوئية من نور الحكمة والبصيرة” من كتاب رحيل شيخ المؤرخين الجزائريين إعداد وتنسيق محمد الأمين بلغيث (2014).

وفي محاضرة ألقاها بجامعة الجزائر بمناسبة الذكرى 33 للثورة الجزائرية بعنوان (الخوف من التاريخ) يتحدث بصراحة فيقول: “إن أسوأ أنواع المؤرخين هم الذين يرضعون أثداء النظم ويمتصون أصابع الحكام، أولئك المعوقون دائما الذين تمر بهم الأيام فلا ينضجون ولا يفارقون الحضانة بل ويرهلون نظمهم ويعيقونها عن التطور”.

التواضع العلمي: 

إذا كان الناس ربما يختلفون في تقييم سعد الله فإنهم لن يختلفوا في تواضعه، فقد كان رغم مقامه وسمعته ورغم سنه في أواخر عمره هينا لينا، يستقبل الكل بكل اهتمام وتقدير، يحسن الاستماع لطلبته، ويحترم آراءهم، ويحرص على تقديم المساعدة والدعم لهم، بل كان يرد على مراسلاتهم، ويتتبّع مسيرتهم العلمية، ويسعى في مشاغلهم، يقول أحد طلبته: “… كان متواضعا معي تواضع العلماء، ومتشددا معي تشدد الناصحين الصادقين الأوفياء… وكان الأستاذ يكن لي ولغيري من طلبته المحبة الصادقة”.

لا ينزعج ممن يختلفون معه في الرأي، وإذا عاتب عاتب برفق، يفضل التلميح في اللوم على التصريح، ولم يكن صوته يرتفع، ولا نبرته تحتدّ إلا إذا تعرضت إحدى ثوابت الأمة للتهجُّم، أو شعر بلمز اتجاه الوطن أو إحدى قضاياه الكبرى.

عدم الغياب عن الشأن العام:

لم يتذرع سعد الله بالانشغال الأكاديمي حتى يعتزل القضايا العامة التي تشغل الناس، والتي يحتاجون فيها للاستئناس بآراء النخبة والعلماء، وهو ما يفعله البعض بصدق وحسن نية أحيانا بحجة أن ذلك قد يبعدهم عن العمل العلمي، وأحيانا أخرى يفعل البعض ذلك تهربا من تسجيل المواقف خوفا أو طمعا، أما سعد الله فإنه كتب يقول: ” إن الإنسان بدون موقف كالشخص الذي يعيش بدون حقيقة، فهو يستحق الإلغاء، بل هو الذي أعدم نفسه”.

ولذلك، فإن سعد الله رحمه الله زيادة على شغله العلمي المنهجي، كان حريصا على تسجيل مواقفه من كل قضايا الشأن العام، عبر ما كان ينشره عبر الصحف والمجلات، وكان لا يراعي في ذلك إلا قناعاته العميقة، والمصلحة العامة، وله في ذلك مقالاتٌ شهيرة صنعت الحدث في حينها، أذكر بعضها على سبيل المثال لا الحصر: الحاج ديكارت، أتيناك طائعين، عذرا يا عراق، قرارٌ غير مدروس، زيارة غير مرحَّب بها، رسالة إلى صديق أمريكي… وقد جُمعت هذه المقالات في كتب منشورة ومنها: أفكار جامحة، في الجدل الثقافي، هموم حضارية…

وأحب أن أختم هذا المقال ونحن نحي الذكرى السابعة لوفاة الأستاذ أبو القاسم سعد الله رحمه الله (توفي في 14 ديسمبر2013) بهذا المقطع الشعري لسعد الله نشرتها له جريدة “البصائر” في مارس 1955 بعنوان، طريقي:

“يا رفيقي

لا تلمني على مروقي

فقد اخترت طريقي

وطريقي كالحياة

شائك الأهداف مجهول السمات

عاصف التيار وحشي النضال

صاخت الأنات عربيد الخيال

كل ما فيه جراحات تسيل

وظلام وشكاوى ووحُول

تتراءى كطيوف من حتوف

في طريقي يا رفيقي”

رحم الله شيخ المؤرخين الجزائريين، ونفع الله بعلمه وسيرته.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!