-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
في ذكرى رحيله

مع الشيخ محمد الغزالي.. صورٌ لا تمحى وذكرياتٌ لا تنسى

محمد بوالروايح
  • 1354
  • 3
مع الشيخ محمد الغزالي.. صورٌ لا تمحى وذكرياتٌ لا تنسى
ح.م

تلتقي في حياتك بأشخاص كثيرين، منهم من تفارقه كما تلتقيه لا يترك في نفسك أثرا، ولكن منهم من يترك في نفسك أثرا عظيما يستمرّ معك إلى آخر رمق من حياتك، فهؤلاء كالنور الذي يتراءى لمدلج بالليل برح به المسير وغرق في التفكير وفقد الأمل في فسحة أمل تسري على نفسه وتأخذ بيده في معترك الحياة وتقوده إلى بر الأمان. في عز الصحوة الإسلامية، وفي ريعان شبابنا، وفي غمرة البحث عن نموذج رباني ورجل رسالي نتخذ منه قدوة وأسوة، قيض الله لنا رجلا عالما وعلما شامخا جاءنا من أرض الكنانة مصر موطن أهل الفكر وأهل الذكر الذين ساحوا في العالم فأشعوا عليه بما تعلموه في رحاب الأزهر.

 إنه الشيخ محمد الغزالي رحمه الله الذي شرفت الجزائر وجامعة الأمير عبد القادر بمقدمه، وشرفنا نحن الدفعة الأولى لهذه الجامعة بالنهل من علمه والتتلمذ عليه، عالم جمع بين رحابة الصدر وسعة الفكر، لا يملّ منه جليسه ولا يملك من يراه لأول مرة إلا أن يحبه، داعية من طينة الكبار، يجول بك في رحاب الدعوة وآفاق الفكرة فينقلك إلى عوالم كثيرة فتشعر بمتعة ظاهرة وسعادة غامرة. لا أجد لوصف خصال هذا الطود الشامخ أفصح مما كتبه المفكر الراحل طه جابر العلواني في تقديمه لكتاب: “حوارات الشيخ الغزالي.. السيرة والمسيرة” الذي كتبه نخبة من الباحثين منهم: جمال الدين عطية وحسن الشافعي وفهمي هويدي، يقول طه جابر العلواني رحمه الله عن الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: “.. الرجال أنواع، فهناك رجل يعيش لنفسه لا تتجاوز اهتماماته دائرة ذاته، وإن هو فعل فقد يتجاوزها إلى دائرة أسرته وأقاربه الأدنين، وهناك رجل يعيش لطائفته أو جماعته أو حزبه وفئته أو أهل مدينته وقريته لا يجاوزهم باهتماماته، وهناك من يعيش لشعبه وقومه، وكل هؤلاء لهم مجالاتهم الحيوية، ونستطيع أن نقدّر لهم اهتمامهم، لكن الرجال المتميزين هم أولئك الذين يسميهم الإنسان “رجال أمة”، وهو مقتنع تماما بأنه لا تثريب عليه في ذلك، الرجال الذين تتمنى كل أمة أن يكون فيها عدد غير قليل منهم هم أولئك الذين يوصفون بأنهم “رجال أمة”، ورجل الأمة هو رجل يعيش لأمته كلها مهما بلغ عددها وترامت أطراف ديارها، يؤرقه كل ما يسوؤها، ويسعده كل ما يسعدها، وهؤلاء قلائل ونوادر إذا ظهر عدد منهم في عصر فما أسعد الأمة بذلك، فهم مصابيح الدجى، يعيشون للأمة وبها، يسددون خطاها، وينيرون سبلها، ويحرصون على نهضتها، ويعملون ليل نهار على إقالة عثرتها إذا عثرت، ومحمد الغزالي (يرحمه الله تعالى) واحد من هؤلاء، فهو رجل أمة ورجل بأمة عبر الأعوام السبعة والسبعين التي عاشها. حمل في ذهنه وعقله وقلبه هموم الأمة ومشاكلها، وخاض معاركها الفكرية، وعمل على نهضتها، وأرقته مشاكلها وقضاياها”.

ماذا عساني أقول عن رجل بلغ شأوا بعيدا في فقه الدعوة وفقه السيرة، في الوقت الذي كنت فيه وأقراني أجراما صغيرة تسبح في عالم رحب لا نملك إلا بضاعة مزجاة نديرها بيننا وننفق منها على من يتحلق حولنا أو يستمع إلى خطبنا على ما يشوبها من هنات وما يتخللها من زلات؟ ماذا عساني أقول عن رجل خرج من رحم المعاناة وصنعته المأساة فنزل بأفكاره إلى معترك الحياة وخاض دونها معارك فكرية ضارية مع العلمانيين والحداثيين بخلق رفيع وأدب جمّ، ينتقد أفكارهم ولا ينتقد أشخاصهم، ينتصر لدينه ولا يتهجم على أديان الآخرين، يدافع عن حرية التفكير ولا يمتهن ثقافة التعيير التي دأب عليها بعض المحسوبين على الفكر الإسلامي وليسوا منه في شيء.

إن أبوّة العلم أفضل عندي من أبوة الدم وهذا خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام يخاطب أباه قائلا: “يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا”. رغم أن للأبوين في شريعة الإسلام منزلة كبيرة إلى درجة أن القرآن الكريم قرن طاعته بطاعتهما “وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا”، إلا أنه في مجال العلم تتقدم أبوّة العلم على أبوة الدين، وفي ذلك دلالة ظاهرة على مكانة العلم في الإسلام. الشيخ محمد الغزالي رحمه الله هو بالنسبة لي بمنزلة الأب الروحي فقد كنت أقتفي أثره وأختلس النظر إليه لشدة حبّي له، كان للرجل وقارٌ ظاهر، لا أحدّثه إلا على استحياء، كانت أمنيتي أن أحظى بمجالسته ولو للحظة عابرة لأن مما حفظت من سير النبلاء أن مجالسة أهل العلم حظوة ومنَّة كبيرة، كانت هذه أقصى أمنياتي، ولكن الله أكرمني بما هو أكبر وهو مجالسة الشيخ رحمه الله بمعية لفيف من زملائي، فكان نعم الجليس الصالح الذي تستمتع وأنا تستمع إليه عن قرب ليس بينك وبينه حجاب. جلست إلى الشيخ محمد الغزالي رحمه الله مرات كثيرة وكنت أترقب مجيئه من منزله، أذهب حيث يذهب حتى إنني كنت أحث الخطى وأتخطى الزوايا والسرايا لكي أراه ويراني وأحظى بلمسة حنية عند مصافحته أو بجلسة خاطفة قبل أن يتحلق الناس حوله.

راودتني مرة رغبة للدراسة بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وكانت الجامعة تشترط تزكية أحد العارفين، فقررت طلب ذلك من الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، ولكنني ترددت كثيرا لما كان له في نفسي من هيبة ورهبة ثم عزمت وتوكلت وأتيت إليه في مكتبه وحدَّثته بما أريد فحدَّق فيَّ برهة ثم أخذ ورقة وكتب هذه التزكية: “إلى من يهمه الأمر.. الطالب محمد بوالروايح بجامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية بقسنطينة، حسن الخُلق، حريصٌ على طلب العلم وأداء واجبه، نرجو أن يجد مستقبلا حسنا بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.. وقد تحرر ذلك شهادة بذلك”. سلمني التزكية فانصرفت ضاحكا مستبشرا وأرسلتها على التو إلى إدارة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، فجاءني خطابُ القبول في أيام معدودات، غير أن ظروفا شخصية وأسرية منعتني من الالتحاق فعدِلت عن ذلك وواصلت مشواري بجامعة الأمير عبد القادر طالبا وأستاذا ومسؤولا إلى أن شاء الله أن أغادرها، ليس رغبة عنها، بل رغبة في إكمال المشوار في فضاء أرحب وهو ما تحقق لي في مدة قصيرة فللَّه الحمد والمنّة.

كان الشيخ محمد الغزالي رحمه الله الأب المعلم والجليس الصالح الذي لا تلمس في حديثه قدحا في علماء السنة ولا تسفيها لأعمال السلف الصالح، بل كان الرجل وسطيا معتدلا، يغضب لبعض التأويلات والقراءات الشاذة لفقه وفكر السلف، ولكنه يستميت في الدفاع عن الإمام أحمد بن حنبل وشيخ الإسلام ابن تيمية، وهو ما أكسبه احتراما وتقديرا من علماء السنة، ويكفي للدلالة على ذلك أنه رحمه الله كان –كما روى بعض مقربيه-طوال عمره يدعو ويقول “اللهم ارزقني الوفاة في بلد حبيبك المصطفى”، ومرت السنون وتحققت له هذه الأمنية إذ دعي ولفيفٌ من العلماء إلى مؤتمر في الرياض عام 1996م وقام إليه أحد الأدعياء وقال فيه قولا مريبا فانفعل الشيخ وعلا صوته وكان آخر كلامه: “نريد أن نحقق في الأرض لا إله إلا الله”، وأصيب على إثرها بذبحة صدرية وخرّ ميتا. وبأمر من الأمير عبد الله -وليّ العهد في ذلك الوقت وملك المملكة العربية السعودية في ما بعد- وبتوصية من الشيخ عبد العزيز بن باز -مفتي المملكة- تم نقل جثمان الشيخ رحمه الله إلى المدينة المنورة ليُدفن في البقيع. يقول الرجل الذي يتولى دفن الأموات بالبقيع: “إن صاحبكم هذا أمره غريب كلما شرعت في حفر حفرة أجد الأرض لا تلين معي حتى جئت هنا ولانت معي الأرض بين قبري نافع مولى عبد الله بن عمر ومالك بن أنس صاحب المذهب المالكي”.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
3
  • احمد

    رحم الله الشيخ محمد الغزالي كان من طينة الراسخين في العلم ومهما زكيا الشيخ ونحسبه عند الله عالما ربانيا والله حسيبه
    نقول ان الله زكى العلماء من امثاله فقالى عزجل ويرفع الله الذين اتو العلم منكم درجات

  • جزائري الطوارق

    الخاضعين فكريا لكل ماهو مصري وسعودي و.. ـ العملاء
    الحمدلله القرآن من عند الله
    الرحمه العطف الإعتدال الحق الباطل و.................................................الجزائريون الأصليون عرفوها من القرآن

  • محمد العربي

    رحم الله الشيخ محمد الغزالي فارس الاعتدال و السنه في زمن تعددت و تنوعت فيه الفتن و تراخت فيه الاعنّه