-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

ملحمة زيوريخ

ملحمة زيوريخ

مهما تعدّد واختلف وصف بعض الجزائريين للخرجة التي قام بها المئات من المغتربين القادمين من مختلف أنحاء أوربا للوقوف أمام مقر الاتحادية العالمية للعبة كرة القدم، في ثالث أيام العيد، المتزامن مع يوم عمل، في بلد يُقدَّس فيها العمل، ويعاقَب كل متغيب أو متقاعس، ومهما حاول البعض وصف التجمع باستعراض عضلات أو ذرّ للرماد في العيون، أو بيع بالجملة والتفصيل لبضاعة الوهم. ومهما كانت نتيجة هذا التجمع الجزائري في بلاد السلام سويسرا وأمام مقر أغنى وأشهر اتحادية في العالم، والتي تكاد تنافس الأمم المتحدة، فإن حشد وشحن جزائريين يقطنون في بلاد شتى ومن أعمار وطبقات ومهن ومناطق مختلفة، حاملين العلم الجزائري ومحاولين استرداد حق جزائري، سلبه حكمٌ إفريقي في عقر ديارنا، هو في حدّ ذاته ملحمةٌ كبرى، تؤكد بأن ما تمتلكه الجزائر في المهجر، قادرٌ على المساعدة في أي مشروع قومي حقيقي، يبعث البلاد من “الردوم” التي تراكمت على مدار عقود.

تعوّد الجزائريون على تسمية بعض المباريات الكروية التاريخية بـ”الملاحم”، من ملحمة خيخون في إسبانيا سنة 1982 عندما تحدّوا استفزازات وتهكّم الألمان، ففازوا عليهم بالنتيجة والأداء، إلى ملحمة أم درمان في 2009 عندما طعنتهم أبواقُ الفتنة في كبريائهم، فحققوا انتصارا كبيرا. وفي كل ملاحمهم كان الجمهور لاعبا أساسيا فيها، عندما سافر خمسة آلاف جزائري إلى خيخون الإسبانية، و15 ألفا إلى الخرطوم السودانية، وانتهاء بزيوريخ السويسرية عندما كانوا اللاعبَ الأول والوحيد، بعد أن أكمل اللاعبون والمدرِّب المباراة منذ أزيد من شهر.

صحيحٌ أن ما حدث من تلاحم وتوافق من شباب وكهول وأطفال قدِموا من فرنسا وانجلترا والنرويج وألمانيا، كان من أجل كرة القدم، وأن نتيجة هذا التجمُّع غير مضمونة، وقد يُثبَّت تأهل المنتخب الكامروني مع مرور الأيام، إلا أن الحقيقة الوحيدة هي أن الجزائريين صاروا أكثر وحدة وتعلقا بالوطن، وهم يمارسون طقوس الوطنية في لعبة كرة القدم في الفرح وفي الخسارة وأيضا في التظلم والاحتجاج على قرارات الحكم الظالمة أو التواطؤ المحتمل، وسيكون من السهل، بعد هذا العرض الباهر، نقل هذه الملاحم إلى مجالات اقتصادية وثقافية واجتماعية عديدة حتى يتم نقل معارف ومواهب وإرادة الجزائريين إلى الواقع المعيش.

يعلم غالبية الذين تجمّعوا في زيوريخ من الجزائريين، وعانوا من مشقَّة السفر، وعرّضوا أنفسهم للعقاب في مكان عملهم، بأن فرص إعادة مباراة منتخب بلادهم أمام منتخب الكامرون ضئيلة ومجهرية، ومع ذلك فقد ضربوا مثلا فريدا من نوعه وحضاريا في الوطنية والتشبُّث بالأمل ولعبِ كل الأوراق إلى آخر رمق. وعندما يتمكّن جزائريون قدِموا من كل أمصار العالم، وينتمون إلى كل ولايات الوطن، على اختلافهم، من التجمع على هدف واحد، فإن البلاد تكون قد ضمنت وحدة أزلية بين أبنائها من سِحر “كرة” إلى كل أنحاء “الكرة” الأرضية.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!