مناقشة هادئة للأستاذ ياسين بن عبيد
“الطّرق كلّها مسدودة عن الخلق إلا من اقتفى أثر الرّسول صلّى الله عليه وسلّم واتّبع سنّته ولزم طريقته”.. الإمام الجنيد عليه رحمة الله.بداية أحبّ أن أجدّد شكري للأستاذ الفاضل ياسين بن عبيد الذي أبى إلا أن يُحرجني بتواضعه ويتابع معي مناقشة موضوع التصوّف الذي طرحتُه وتوقّعت أن يثير مثل هذا النّقاش، ولكنّي أعتب على الأستاذ مرّة أخرى أنّه -وباستثناء بعض الدّعاوى التي لم يقم عليها البيّنات- أعفى نفسه من مناقشة جوهر الموضوع وأصرّ على نقل المناظرة إلى المربّع الذي يريد، واضطرّ إلى استدعاء ما يتداوله صغار المريدين على صفحات المنتديات من مشاغبات، وهو الأستاذ الأكاديميّ الذي يفترض فيه أن يتفقّد كنانته ويبري سهامه قبل أن يرمي بها.
التصوّف في إنصاف التصوّف
اتّهمني الأستاذ بن عبيد (في مقاله) أنّي أهاجم التصوّف دون تمييز، ولست أدري أين وجد في مقالَيّ السّابقين أنّي أهاجم التصوّف دون تمييز بين غثّه وسمينه، بين سنيّه وبدعيّه، وأنا الذي أشرت في مقالي الأوّل إلى أنّ المعنِيين بكلامي هم من تصفهم مراكز الأبحاث الغربية بأنّهم “من يقومون بتقديس أئمّتهم وشيوخهم ويصلّون في القبور ويقدّمون النّذور”، وقلت في خاتمته أنّه “لا غنى للأمّة عن التصوّف الصّحيح الذي يعني الزّهد في الملهيات والسّفاسف التي لا تُصلح دينا ولا تقيم دنيا”.
ولعلّ الأستاذ الكريم وهو يرميني بهذه التّهمة نسي أنّه رماني بتهمة أخرى هي “التّيمية”، نسبة إلى ابن تيمية الذي يعدّ من أكثر العلماء إنصافا للصّوفية، ولا أدلّ على ذلك من أنّهم يستدعون شهادته في حقّ التصوّف لمحاجّة منتقديهم من غلاة الجرح والتّجريح، أعني قوله رحمه الله كما في مجموع الفتاوى: “والصّواب أنّهم (الصّوفية) مجتهدون في طاعة الله كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله، ففيهم السّابق المقرّب بحسب اجتهاده، وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين، وفي كلّ من الصّنفين من قد يجتهد فيخطئ وفيهم من يذنب فيتوب أو لا يتوب، ومن المنتسبين إليهم من هو ظالم لنفسه عاص لربّه…”.
وما قاله ابن تيمية هو ما يقتضيه الإنصاف الذي يمنع صاحبه من التّسوية بين التصوّف السنيّ الذي كان عليه أئمّة أعلام مثل إبراهيم بن أدهم وعبد الله بن المبارك والفضيل بن عياض ومعروف الكرخي والجنيد، وبين التصوّف الحلولي الذي كان عليه الحلاج وابن الفارض وابن سبعين وابن عربي والعفيف التّلمسانيّ والنّجم الإسرائيلي، وغيرهم من الغلاة الذين تبرّأ منهم أئمّة التصوّف السنيّ، وذمّهم الأشاعرة وأتباع المذاهب قبل ابن تيمية وبعده.
هذا هو معتقدي في التصّوف، ولكن يبدو أنّ الأستاذ بن عبيد الذي يَظهر من إهداءاته في دواوينه ومن مقاليه السّابقين أنّه يدافع عن التّصوّف الحلوليّ، لَمْ ولن يلوي لهذا وذاك رأسا لأنّه مصرّ على المضيّ في خوض معركة في غير ميدانها، يستنسخ مادّتها ممّا حفلت به كتابات المريدين في الكرّاسات والمواقع، ما جعله يسعى جاهدا لحصري في الزّاوية التي تصلها سهامه، فأنا سلفيّ تيميّ وهابيّ حداثيّ سياسيّ! وهذه الطّائفة الجديدة لعلّها تكون في ميزان الأستاذ شرا من اليهود والنصارى والذين أشركوا، لذلك ختم مقاله بقوله “والسّلام على من اتّبع الهدى”!.
أنا لا ألوم الأستاذ الكريم، لأنّه _على ما يبدو- لم تسبق له مناقشة مخالفٍ يعتقد بعصمة مجموع الأمّة، ولا يعتقد بعصمة طائفة من طوائف المسلمين، ولا يرى حرجا في الدّفاع عن أيّ طائفة فيما يرى أنّها أصابت فيه الحقّ، كما لا يجد غضاضة في الإنكار على أيّ طائفة فيما يرى أنّها جانبت فيه الصّواب.. ولا يعرف متعة الحرية الفكرية إلا من ذاق طعمها.
تيميون، وهابيون،… باديسيون!
تحدّث الأستاذ بن عبيد عن ما أسماه الاتّجاه التيميّ نسبة إلى ابن تيمية، وأشار إلى بعض امتداداته المتجسّدة في أسماء ذكر منها ابن القيم والشّوكاني وابن عبد الوهّاب ورشيد رضا، وتعمّد القفز إلى ما أسماه عوام الوهابية المعاصرة، حتى لا يحرج نفسه بذكر ابن باديس والإبراهيمي ومبارك الميلي وأحمد حماني، لأنّه يخشى أن تحترق أوراقه بذكر هذه الأسماء التي لم يكن الطّرقيون في الجزائر وخارجها قبل زمن ليس بالبعيد يتّقون أو يتورعون في إلصاق تهمة التيمية والوهابية بأصحابها.
وقد تحدّث أعلام جمعية العلماء المسلمين الجزائريين عن هذه التّهم في صحف الجمعية ومنشوراتها، ومن ذلك ما كتبه الإمام الإبراهيميّ في مقال له عنوانه “تعالوا نسائلكم”، نشر في العدد 9 من مجلة “السنّة النبوية”؛ فبعد أن دافع عن الوهابيين وبيّن سبب عداء القبوريين لهم قال: “تنسبوننا إليهم تحقيرا لنا ولهم، وازدراء بنا وبهم، وإن فرّقت بيننا وبينهم الاعتبارات، فنحن مالكيون برغم أنوفكم وهم حنبليون برغم أنوفكم، ونحن في الجزائر وهم في الجزيرة، ونحن نُعمل في طريق الإصلاح الأقلام، وهم يُعملون فيها الأقدام، وهم يُعملون في الأضرحة المعاول، ونحن نُعمل في بانيها المَقاول”.
ثمّ قال في الأخير: “وإنّنا نجتمع مع الوهابيين في الطّريق الجامعة من سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وننكر عليهم غلوّهم في الحقّ كما أنكرنا عليكم غلوّكم في الباطل، فقَعوا أو طيروا فما ذلك بضائرنا وما هو بنافعكم”.
وهذا الذي قاله الإمام الإبراهيميّ في حقّ الوهابيّة هو معتقدنا فيهم لا نماري ولا نداهن، ولا نقول لخصومهم إلا ما قال هذا الإمام الذي خبر الطّرفين.
ونحن من جانبنا نتمنّى لأستاذنا الكريم أن يُبِين لنا _من دون تقية- عن موقفه من جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ومن أعلامها المبرّزين؛ خصوصا ابن باديس والإبراهيميّ والعقبي والميلي والزواوي، وسنكون له من الشّاكرين لو زاد على ذلك وأفصح لنا عن رأيه في هذه الكتب: “العقائد الإسلاميّة” لابن باديس، “بدعة الطّرائق في الإسلام” للإبراهيميّ، “رسالة الشّرك ومظاهره” لمبارك الميلي، و”صراع بين السنّة والبدعة” لأحمد حمّاني؟.
ابن تيمية جاهد التّتار.. فماذا عن خصومه؟
أمعن الأستاذ بن عبيد في جلد روح ابن تيمية ووصفه بأوصاف أقلّ ما يقال عنها أنّها بعيدة كلّ البعد عن سيرته ومكانته بين المسلمين، وكنت أتمنّى للأستاذ الذي خصّص جلّ مقاله للطّعن في الرّجل، أن يدفع الشّبهة عن خصومه، ويجيب عن السّؤال الذي طرحتُه: ماذا كان خصوم ابن تيمية يفعلون حينما كان الشّيخ يحرّض على قتال التتار ويدعو للجهاد ويتقدّم الصّفوف في ساحات النّزال؟، ولعلّه لا يخفى على أستاذي الكريم أنّ الإجابة عن مثل هذا السّؤال تتعلّق بلبّ نقاشنا حول علاقة التصوّف بالغرب والاستعمار.
ولأنّ الأستاذ بن عبيد اتّهم ابن تيمية بالطّعن في أئمّة التصوّف موهما أنّ الشّيخ هو أوّل من تكلّم في الغزالي وابن عربي وابن الفارض وابن سبعين والعفيف التلمساني، وهو ما سيأتي الجواب عنه بحول الله، أريد أن أسأله سؤالا آخر: حينما سقط بيت المقدس في يد الصّليبيين عام 1099م، ماذا كتب الإمام أبو حامد الغزالي (ت: 1111م) عن هذا الحدث؟، وماذا فعل لاستنهاض الهمم لأجل استرداد الأقصى؟.
وماذا عن ابن عربي (ت: 1240م) وابن الفارض (ت: 1235م) الزّعيمين الصّوفيين الكبيرين اللّذين عاشا في زمن الحملة السّادسة للحروب الصّليبية، هل شاركا في القتال؟، وهل دعيا إلى الجهاد؟، وهل سجّلا فيما كتبا من شعر أو نثر آهة على الفواجع التي نزلت بالمسلمين؟، وماذا عن العفيف التلمسانيّ (ت: 1291م ) الذي عاش في زمن الحملتين الصّليبيّتين السّابعة والثّامنة؟.
ابن تيمية الذي زكّاه الأئمّة الأعلام
وصف الأستاذ بن عبيد ابنَ تيمية بأنّه شخص لا يزال إلى اليوم لوثة لم تزدها القرون إلا كدرا، وهو وصف لا يُسعفه فيه الواقع، لأنّ ابن تيمية لم يزدد اسمه مع مرّ القرون إلا بريقا ولمعانا، ليس لأنّه رجل معصوم، فهو رجل يصيب ويخطئ، وإنّما لأنّه رجل عاش الإسلام واقعا وجعل حياته وقفا على خدمة دينه والذّود عنه والجهاد في سبيله، نحسبه كذلك، ولا يضرّه أن يمقته قبورية الشّيعة والمتصوّفة وحلوليتهم، لأنّ بغضهم له مبعثه الحرص على الامتيازات التي يخلعها عنهم فكره المناهض للدّروشة وتعظيم المشايخ والتعلّق بالأموات وبذل النذور في المزارات، ولو بحث الأستاذ في مكتبات العالم لوجد أنّ كتب ابن تيمية أكثر رواجا من كتب خصومه، وعدد المساجد والمعاهد الإسلامية التي تحمل أسماء خصومه مجتمعين لا تبلغ عدد التي تحمل اسمه، على الرّغم من الحملات الهائلة التي يشنّها مخالفوه لتشويه وقبر اسمه.
ولعلّنا لن نكون في حاجة إلى أن نقول في ابن تيمية ما قاله في حقّه الإمامان ابن حجر العسقلاني والسّيوطي اللذان _ورغم مخالفتهما له في كثير من المسائل- وصفاه بالحافظ والعلاّمة وشيخ الإسلام ومجتهد وقته وبحر عصره، فهذا قد يكون فيه شيء من المبالغة التي لا يرضاها ابن تيمية نفسه، ولعلّنا أيضا لن نكون في حاجة إلى حصر العلماء الجهابذة الذين أثنوا عليه وذبّوا عن عرضه، إن نحن اكتفينا بذكر قامات شامخة من وزن ابن سيّد النّاس وابن دقيق العيد وابن الوردي وأبي حيان النحوي وابن الزّملكاني والحافظ المزّي والحافظ البرزالي وابن رجب وبهاء الدّين السّبكي، كما أنّنا لن نحتاج إلى الاستشهاد بوصف الإمام العيني إمام الحنفية في زمانه لمبغضي ابن تيمية بأنّ حالهم كحال الجعل الذي يموت حتف أنفه بشمّ الورد.
لن نحتاج إلى هذا وذاك، وإنّما يكفينا أن نقول أنّ ابن تيمية إن لم يكن كما شهد هؤلاء الأعلام الذين عاصروه أو عاشوا قريبا من عهده، فلن يكون كما يقول الأستاذ بن عبيد الذي يردّد ما روّجه خصومه وتوارثه المريدون جيلا عن جيل من دون تمحيص.
ابن تيمية يُدين المشبّهة وينسب المجسّمة إلى شيخهم
اتّهم الأستاذ بن عبيد الشيخ ابن تيمية بأنّه كان مشبّها ومجسّما، وردّد في حقّه التّهمة التي توارثها خصومه بأنّه نزل من على المنبر درجة وقال إنّ الله ينزل كنزولي هذا! _تعالى الله عن هذا علوا كبيرا- وقال الأستاذ أنّه قد شهد عليه شهود عيان، لم يذكر منهم إلا ابن بطوطة في رحلته المشهورة (تحفة الأنظار)، وهو المصدر الوحيد الذي يرجع إليه من يتّهم الشّيخ بهذه التّهمة المنكرة، غاضّين الطّرف عن أنّ ابن بطّوطة علاوة على أنّه كان من عوامّ المتصوّفة، حدّث بالغرائب والعجائب والأساطير، وغلب على رحلته زيارة أضرحة الأولياء والتبرّك بقبورهم وتقبيل أعتابها، وعلاوة على أنّه -وكما أكّد الحافظ ابن حجر- لم يكتب تفاصيل رحلته إنّما جمعها ونمّقها أبو عبد الله بن جزي الذي اختُلف في أمره فكذّبه البلفيقي وبرّأه ابن مرزوق؛ علاوة على هذا وذاك فإنّ ابن تيمية كان قد سجن بقلعة دمشق قبل مجيء ابن بطوطة إليها بأكثر من شهر، وقد اتّفق المؤرّخون _منهم ابن كثير وابن رجب وابن عبد الهادي- أنّه اعتقل بقلعة دمشق آخر مرّة في الـ06 شعبان سنة 726هـ ولم يخرج منها إلا ميتاً، بينما ذكر مؤلّف رحلة ابن بطوطة أنّه وصل دمشق في الـ09 من رمضان!.
ثمّ كيف يقول ابن تيمية ما نسب إليه وهو الذي يقرّر في كتبه أنّ من شبّه الله بخلقه فقد كفر، فيقول مثلا: “فمن قال إنّ علمَ الله كعلمي أو قدرتَه كقدرتي أو استواءَه على العرش كاستوائي أو نزولَه كنزولي، أو إتيانَه كإتياني؛ فهذا قد شبّه الله بخلقه، تعالى الله عمّا يقولون، وهو ضالّ خبيث مبطل بل كافر” (مجموع الفتاوي 11/482).
أمّا عن نسبة التّجسيم إليه فكُتبه حافلة بما يدحض ذلك، ومنه قوله: “وإثبات لفظ الجسم ونفيه بدعة لا أصل لها في الكتاب والسنّة، ولم يتكلم به أحد من السّلف والأئمّة، وأهل السنّة والجماعة لا يطلقون هذا اللفظ لا نفياً ولا إثباتاً، كما أنّهم لم يثبتوا لفظ التحيّز ولا نفوه ولا لفظ الجهة ولا نفوه، ولكن أثبتوا الصّفات التي جاء بها الكتاب والسنّة، ونفوا مماثلة المخلوقات”، وقال أيضا عن لفظ الجسم: “وإنّما يطلقه أهل الكلام مثل هشام بن الحكم الرّافضي وهشام الجواليقي فإنّه أوّل من قال إنّ الله جسم”.
والعجيب في أمر من ينسبون إلى ابن تيمية التّجسيم أنّهم لا يجرؤون على نسبته إلى متولّي كبره هشام بن الحكم (ت 179هـ) شيخ الشّيعة وراويتهم الذي لا تصله سهام جراحي الشّيعة وقبوريي المتصوّفة! ما يدلّ على أنّ العداوة في أصلها لا تتعلّق بالتّجسيم وإنّما تتعلّق بصراع أزليّ بين ورثة الأنبياء وبين قوم مفتونين شابهوا قوما تشمئزّ قلوبهم إذا ذكر الله وحده واستغيث به وحده.
والعجب لا ينقضي أيضا من قوم يتّهمون ابن تيمية بالتّشبيه والتّجسيم، يدافعون في المقابل عن أئمّة التصوّف الحلوليّ كالحلاّج وابن عربي وابن الفارض، وغيرهم ممّن يتكلّف كثير من القبوريين تكلّفا بالغا في محاولة تأويل كلامهم الذي يجعل الخالق مخلوقا والمخلوق خالقا!، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
ابن تيمية وزيارة قبر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم
أثار الأستاذ بن عبيد تهمة منع زيارة قبر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم التي وجّهها إلى ابنِ تيمية خصومُه الذين تمادى بعضهم ونسبوا إليه منع زيارة القبور مطلقا!، وقد أجاب ابن تيمية عن هذه التّهمة في حياته في ردّه على كلّ من البكري والأخنائي؛ وفصّل مذاهب العلماء في زيارة القبور، وبيّن أنّه لا ينهى عن الزيارة الشّرعية للقبور عامّة، ولا لقبر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خاصّة، وإنما ينهى عن الزيارة البدعية التي تتضمّن شدّ الرّحال إلى القبور لأجل التمسّح بها والاستغاثة بأصحابها، وقد أنصفه ابن عابدين إمام الحنفية في زمانه حين قال: “وما نسب إلى الحافظ ابن تيمية الحنبلي من أنّه يقول بالنّهي عنها -أي زيارة قبر الرّسول صلّى الله عليه وسلّم-، فقد قال بعض العلماء: إنّه لا أصل له، وإنّما يقول بالنّهي عن شدّ الرّحال إلى غير المساجد الثّلاثة، أمّا نفس الزّيارة فلا يخالف فيه لزيارة سائر القبور” (حاشية ردّ المحتار 02/626).
ومن جهته كشف ابن كثير التّحريف الذي وقع لكلام ابن تيمية في المسألة، فقال: “فانظر الآن هذا التّحريف على شيخ الإسلام، فإنّ جوابه على هذه المسألة ليس فيه منع زيارة قبور الأنبياء والصّالحين، وإنّما فيه ذكر قولين في شدّ الرّحل والسّفر إلى مجرّد زيارة القبور، وزيارة القبور من غير شدّ رحل إليها مسألة، وشدّ الرّحل لمجرّد الزّيارة مسألة أخرى، والشّيخ لم يمنع الزّيارة الخالية عن شدّ رحل، بل يستحبّها ويندب إليها، وكُتبه ومناسكه تشهد بذلك، ولم يتعرّض إلى هذه الزّيارة في هذا الوجه في الفتيا، ولا قال إنّها معصية، ولا حكى الإجماع على المنع منها، ولا هو جاهل قول الرّسول (زوروا القبور فإنّها تذكّركم الآخرة)، والله سبحانه لا يخفى عليه شيء، ولا يخفى عليه خافية، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُون}” (البداية والنهاية).
وبهذا يُعلم أنّ ابن تيمية -رحمه الله- لا ينهى عن السّفر لزيارة قبر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم الشّريف لأجل التقرّب إلى الله -تبارك وتعالى- بالسّلام عليه والصّلاة في مسجده، وإنّما ينهى عن السّفر لمجرّد زيارة القبر من دون الصّلاة في المسجد، وهذا إن كان يَقصد به النّهي عن السّفر إلى القبر لأجل الاستغاثة بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم وطلب الحاجات منه، فهو مصيب فيه، موافق لنصوص الكتاب والسنّة، وإن كان يقصد النّهي عن السّفر إلى القبر ولو للسّلام على صاحبه عليه الصّلاة والسّلام، فهو مخطئ نجهر بتخطئته ومخالفته، ولكنّنا لا نتّهمه ببغض النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم، ولا ننسب إليه تحريم الزّيارة مطلقا، ولا نحرّف مذهبه القاضي بأن يكون شدّ الرّحل إلى المسجد النبويّ هو الأصل وزيارة القبر تبعا له، وهذا مذهبٌ يستند إلى ظاهر حديث النّهي عن شدّ الرّحال إلا إلى المساجد الثلاثة، نخالفه فيه، ونجد له عذرا كما وجدناه للإمام الجويني الأشعريّ وللقاضي عياض المالكي اللذين قالا بهذا الرأي الأخير، بل قد نُقل عن الإمام مالك أنّه كان يكرّه أن يقول الرّجل “زرت قبر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم”.فلماذا الهجوم على ابن تيمية وحده؟.
ابن تيمية ومسألة طلاق الثلاث
نسب الأستاذ بن عبيد إلى ابن تيمية أنّه خرق الإجماع في مسألة الطّلاق بالثّلاث وأوقعه طلقة واحدة، وكأنّ الخلاف في هذه المسألة من الدّواهي التي تستوجب المحاكمات والوشايات، والعجب من الأستاذ الذي يهاجم الفكر الأحادي الإقصائيّ حين يجعل الخلاف في مسألة فقهية مثلبة وزلّة لا تغتفر!، ولست أدري ما يصنع الأستاذ مع الحكومات الإسلاميّة التي اعتمدت في زماننا هذا رأي ابن تيمية في قوانين الأحوال الشّخصية؟.
هذا ناهيك عن أنّ دعوى الإجماع في المسألة دعوى عارية من الصحّة، قال الحافظ ابن حجر: “ويتعجّب من ابن التين حين جزم بأنّ لزوم الثّلاث لا اختلاف فيه، مع ثبوت الاختلاف كما ترى” (فتح الباري 9/363).
وإيقاع طلاق الثّلاث في مجلس واحد طلقة واحدة هو قول جماعة من الصّحابة، كابن عباس والزبير بن العوّام وعبد الرّحمن بن عوف، وأفتى به علي بن أبي طالب وابن مسعود، ومن التابعين ابن المسيب وعطاء وطاوُس وعمرو بن دينار، وأفتى به أحمد بن بقي بن مخلد ومحمد بن القاسم بن هبة الله الشافعي.
وقبل هذا وذاك، هل ذهل الأستاذ بن عبيد وهو يشنّ الغارة على ابن تيمية في هذه المسألة، هل ذهل عن قول ابن عباس رضي الله عنه “كان الطّلاق على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر: طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب إنّ النّاس قد استعجلوا في أمرٍ قد كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم” رواه مسلم؟.
ابن تيمية وتهمة تفريق المسلمين
رمى الأستاذ بن عبيد ابن تيمية بأنّه استظهر بالفرقة على الجماعة وبالشّتات على الألفة، وهذه التّهمة لو صحّت في حقّ أيّ كان فإنّها لا تكون ذما إلا إذا كان صاحبها مبطلا يدعو إلى خلاف ما جاء به الأنبياء والمرسلون، والأنبياء أنفسهم ومن بعدهم المصلحون في كلّ زمان جوبهوا بهذه التّهمة، وجمعية العلماء المسلمين في الجزائر رماها الطّرقيون بمثل هذا، ولكنّنا مع هذا نقول: هل ابن تيمية هو من شذّ عن جماعة المسلمين أم خصومه الذين اتّخذوا التقرّب إلى السّلاطين وسيلة لنشر معتقداتهم وآرائهم، بعد أن أعوزتهم الحجّة وبان عجزهم في ميادين المناظرة، وقد كان يدعوهم إلى أن يأتوه من نصوص الكتاب والسنّة وأقوال الصّحابة والتّابعين ومن أقوال أئمّة المذاهب الأربعة وتلامذتهم ما ينقض أقواله، ويدعوهم إلى المناظرة والمباهلة، فلا يجيبون، ويصرّون على أن يكونوا خصوما وقضاة.
ابن تيمية كان يفتي من يسأله، ويعلّم من يجلس بين يديه، وما كان يُلزم أحدا برأيه، ولا يسعى إلى السّلاطين لفرض ما يعتقده، وعلى الرّغم من أنّ خصومه أذاقوه الأمرّين على عهد الملك المظفّر وقبله، فإنّه عندما تمكّن الملك النّاصر وأراد تقريبه والقصاص له من خصومه، أبى عليه ابن تيمية، وحينما أحاط به الناس يطلبون الإذن بعقاب مبغضيه والسّاعين في قتله، نهاهم وزجرهم، وتبرّأ من كلّ من يمسّ أحد خصومه، حتى قال ابن مخلوف قاضي المالكية: “ما رأينا أفتى (أكثر فتوة) من ابن تيمية؛ سعينا في دمه، فلمّا قدر علينا عفا عنّا”، ثمّ لمّا ذهب الملك النّاصر ودالت الدّولة لخصومه، تنكّروا لعفوه وما فتئوا يسعون في أذيته حتى حبس. فهل يقال في رجل كهذا أنّه يفرّق المسلمين؟.
ثمّ لمّا توفّي ابن تيمية في السّجن، وحملت جنازته، حضرها ما يزيد على 100 ألف نفس، لم يكن بإمكان سلطان من السّلاطين أن يجمعهم في ذلك الوقت، ولكنّهم اجتمعوا له وهو الذي كان مسجونا من قبل الحاكم، ولم يتخلّف عن جنازته إلا نفر يسير من خصومه الذين لزموا بيوتهم خوفا من بطش النّاس. فلو كان النّاس يبغضونه ما اجتمع في جنازته هذا العدد الهائل الذي لم يجتمع عشره في جنائز خصومه والمناوئين له.
ابن تيمية وأئمة التصوّف الحلوليّ
زعم الأستاذ بن عبيد أنّ خصوم ابن تيمية شكوه إلى السّلطان بسبب ما قاله في أئمّتهم، وهذا تزييف للحقائق، لأنّ ما قاله ابن تيمية في أئمّة التصوّف الحلوليّ كابن الفارض والتّلمساني والحلاّج وابن عربي، لا يمثّل شيئا مقارنة بما قاله في حقّهم كثير من أئمّة الأشاعرة وأعلام التصوّف السنيّ، قبل ابن تيمية وبعده، وكلام الحافظين ابن حجر العسقلاني وابن جماعة الشّافعيين خير ما يمثّل به في هذا المقام، وابن عربي خاصّة ذكر ابن طولون الحنفي أنّ غالب فقهاء العرب وجميع المحدّثين بلغوا نحواً من 500 ذهبوا إلى إدانته بسبب مقولاته التي أساء فيها إلى الإله جلّ في علاه، أمّا الحلاج فقد قال الحافظ السلمي الصوفيّ في كتاب “طبقات الصّوفية” إنّ أكثر الصّوفية نفوه واعتدّ به أربعة، وذكر الخطيب البغدادي أنّ الإمام الجنيد قال للحلاج: “لقد فتحتَ في الإسلام ثغرة لا يسدّها إلا رأسك”.
بين خصوم ابن تيمية وخصوم الإمام أحمد
زعم الأستاذ بن عبيد أنّ مجتهدي عصر ابن تيمية على المذاهب الأربعة أصدروا فتوى استوجب بموجبها ما استوجب، ونحن نذكّر الأستاذ أنّ أقصى عدد ذُكر لمن أفتوا بسجن ابن تيمية كان 18 نفرا، أشهرهم الثلاثة الذين ذكرهم إضافة إلى بدر الدين بن جماعة الشّافعي، وهذا العدد هو أقلّ بكثير من عدد القضاة الذين أفتوا بقتل الإمام أحمد بن حنبل، حيث أوصلته بعض المصادر إلى 70 قاضيا، قالوا للخليفة “يا أمير المؤمنين! أتكون أنت وقضاتك وولاتك والفقهاء والمفتون كلّهم على الباطل، وأحمد وحده هو على الحقّ!”، وبلغ الأمر بأحدهم أنّه قال مشيرا على الخليفة العبّاسيّ: “اقتله يا مولاي! وعليّ دمه يوم يقوم الأشهاد”!.
كما أنّ من خطّؤوا فتوى قضاة المذاهب الأربعة أكثر من الذين وافقوها، حيث قال جماعة منهم بأنّ ابن تيمية مخطئ خطأ المجتهدين المغفور لهم، ووافقه على ما ذهب إليه جماعة من علماء بغداد وغيرهم، وأفتى ابنا أبي الوليد شيخ المالكية بدمشق أنّه لا وجه للاعتراض عليه فيما قاله أصلا، وأنّه نقل خلاف العلماء في المسألة ورجّح أحد القولين فيها.