-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

منصة التعليم عن بُعد وتفقيس ملايين الكائنات الرخوية

منصة التعليم عن بُعد وتفقيس ملايين الكائنات الرخوية

حضرتُ درسين تكوينيين عن ما يُسمَّى بمنصة التعليم عن بُعد (مودل)، والتي تم الإسراع في ترويج حملة دعائية مثيرة لمردوديتها وفاعليتها ومستقبلها وآفاقها الواعدة في عصر اقتصاد المعرفة، والترويج والتطبيل لفتوحاتها وثمارها وعطاءاتها المنقطعة النظير، ولاسيما في مرحلة اشتداد ضغط وباء (كُفاد) المعدي والفتاك بالأمة.

هذه المنظومة التي تم اقتناؤها بملايين الدولارات، من أجل رفع –حسب نية وتصوُّر وهدف متبنّيها- وتيرة ومكانة مؤسسات التعليم العالي أثناء قيامها بواجباتها التعليمية والتكوينية المقدسة، ولاسيما فيما توفره من جهد ومال وطاقة ووقت.. يقع على كاهل المؤسّسات الجامعية ومئات الآلاف من الطلبة الجامعيين وعشرات الآلاف من الأساتذة.

كلّمني صديقٌ لي يعمل أستاذا في الجامعة الجزائرية صُنِّف ضمن أفضل ثلاثين أستاذ رياضيات في العالم هذا العام، بأنه قادرٌ على صناعة منصة تعليم عن بُعد أفضل من هذه المستورَدة بملايين الدولارات، ولكن داء التبعية للغرب واستيراد منجزاته مازال مستفحلا في القائمين على تسيير شؤوننا.

كما قرأتُ العديد من المقالات والأبحاث تضمّنت الكثير من الحقائق عن خصائصها وتفاصيلها ودقائقها وميزاتها، كتبها باحثون متخصِّصون في المجال الرقمي، تلقوا شطرا مهمًّا من تعليمهم العالي في المدارس والمجتمعات الغربية، ومن الذين أمضوا ردحا معتبرا من حياتهم العلمية والتكوينية في كيانات وأنظمة اصطبغت حياتُها ونشاطاتها كلها بالمعاملات الإلكترونية والرقمية، ومن بينهم رئيس جامعة جزائرية متميِّزة كتب عنها ثلاث مرات في إحدى الصحف الجزائرية المستقلة، منوِّها بمردوديتها وآفاقيتها من الناحية النظرية فقط كغيره من النخب الجزائرية المستلبة والذاهلة عن واقعها المتخلف بامتياز، وعن ضغوطه وإكراهاته وسلبياته، كاشفا في الوقت عينه عن أهمية وضرورة فهم الواقع الذي ستوجَّه إليه مثل هذه المقتنيات والمستورَدات الغربية الحديثة لتعمل عملها في الفرد والمجتمع.

ودون الدخول في التفاصيل التقنية التي يعدُّ تعلمها سهلا وميسورا لمن أراد أن يحيط ويتمهّر في هذا المجال الرقمي، وهو أمرٌ متاح حتى لكبار السن من الأساتذة، إلا أنّ المشكلة الكبرى لا تكمن في اقتناء هذا المنجَز الغربي بامتياز، والذي يصلح ويُثمر في بيئته ومجتمعه وبين أهله الذين صنعوه وابتكروه وفق السنن والنواميس وتطوروا معه واعتادوا عليه، حتى وصلوا به شيئا فشيئا حتى صار في مثل هذا المستوى الراقي، وجاء هؤلاء الذين يقرِّرون مستقبلنا حسب دراسات مستلبين ومبهورين ومنخدعين باقتناء المنجزات الغربية على اعتبار أن اقتناء منجزات المدنية الغربية يعني النهضة والتقدُّم، دون مراعاة معطيات الواقع والبيئة والفرد وتفاعلات وتعاملات وتواصلات الجماعة حسبما ذهب إليه المفكر (مالك بن نبي ت 1973م)، والذي ظلت أفكارُه الصحيحة والحية مهمَلة لحساب هؤلاء المبهورين.. وليستورده المستلبون ويظنون أن باستيراده سيرتقي التعليم العالي بغمضة عين!

وعملا بتوصيات وضوابط الدراسة الميدانية التجرُبية التي تفترض على القائمين على أمور البلاد أن يقوموا بها قبل أن يتخذوا قرارا أو يفرضوا منهجا أو يسنّوا قانونا أو يرسلوا تعليمة أو نحوها..  كهذه التعليمة الوزارية الأخيرة المتعلقة بضرورة تعميم آلية التعليم عن بُعد ولواحقها من الشروح والتحاليل والمناقشات ووضع الأسئلة وإجراء الامتحانات.. فإنَّ هذا المشروع محكومٌ عليه كسابقه وغيره بالفشل، لأننا أمة سارت –وللأسف الشديد مازالت- بغير هدى ونور، وظلت تقتفي آثار السراب والوهم جراء تدني مستوى واضعي قوانينها ومناهجها ومشرفي مشاريعها النهضوية الفاشلة.. وذلك لاعتبارات كثيرة لم يُلق –ولن يُلقي- إليها هؤلاء بالَهم كعادتهم، وقد أجريت تجربة ميدانية في حينها بحضور رئيس قسم الشريعة المأمور بالتبليغ والتطبيق والتنفيذ فقط دون مناقشة، والذي جاء يبلّغ الطلاب في مدرّجي نظرا لكثافة طلابه أن عليهم أن يحضروا ندوة حول التعليم عن بُعد، وعن تفاصيل هذه المنصة، وأنهم مجبرون على إجراء امتحان مادة الإنجليزية عن بُعد، وفي لمح البصر كنت أتابع تقاسيم وجوه طلابي الذين سرعان ما عبَّروا عن تذمُّرهم من مثل هذه التعليمات التي تسقط من علِ.. فاستبقته بحكم خبرتي وتدريسي لمادَّة المنهجية، فقلت له: إسأل الطلاب: هل يمتلكون خط الشبكة المعلوماتية في بيوتهم؟ وأين يسكنون؟ وهل توجد في بيوتهم أجهزة إلكترونية متوسطة الاستعمال؟ أو هل يمتلكون هواتف محمولة مؤهَّلة لمثل هذه العمليات؟ وهل يمتلكون اللوحات الرقمية المؤهلة للدراسة عن بُعد؟ وهل يعرفون الكتابة على أجهزة الحاسوب؟ وهل يعتبرون هذه الوسائط وسائلَ علمية أم وسائل لعب وترفيه ومعاكسة ودردشة وتسلية؟ وغيرها من الأسئلة التي وجب على هؤلاء المستلبين –على حد قول مالك بن نبي- أن يسألوها وهم قابعون في مكاتبهم الوثيرة.. بل يجب عليهم أن ينداحوا في أعماق الوطن والتراب والبيئة والمجتمع والمؤسسات والفرد الجزائري الفقير والمحروم..

إن هذا المشروع محكومٌ عليه كسابقه بالفشل، كما حصل مع مستوردات النظام السابق لنظام (ل. م. د) الذي يعتبر الطالب شريكا في تحضير العملية المعرفية بالفراغ والوهم الحداثي.. ومنظومة التدريس بكفاءات التلميذ الفارغة، بعد أن كانت المقاربات التربوية الصحيحة والسليمة والطبيعية لمجتمعنا وتلميذنا ومدرستنا ومعلمنا تقتضي التعليم بالمضامين الواجب تعلّمها وحفظها والعيش والتعوُّد عليها..  فاستحالت الأطروحةُ التغريبية في عهد الوزيرة السابقة للتربية التدريس بالكفاءات، التي تصلح للمجتمعات الغربية المادية التي لا تملك الثوابت الدينية ولا الأخلاقية ولا الاجتماعية.. وهي المقاربة التي هلّل لها الضعاف والمستلبون روحيا ودينيا وأخلاقيا ووطنيا.. فنحن أمة لها ثوابتها الدينية والروحية والعقدية والأخلاقية والسلوكية والاجتماعية والتربوية.. ولسنا أمّة خالية وعاطلة من الثوابت كالغرب الحداثي الذي لا يؤمن بشيء ولا يستقرّ على شيء، فهو كل عصر في زي ونمط وفكر ودين وفلسفة..

وهي محكومٌ عليها بالفشل باعتبار أنها تعمل وتسعى للفصل الشهودي والحضوري بين ركني العملية التعليمية (المعلم، المتعلم)، إذ يغيب الرمزُ القيمي من العملية التعليمية المقدَّسة، وتختفي عمليات التأثير السلوكي، ويصير بإمكان الطالب أو الأستاذ أن يقدِّم درسه أو محاضرته وهو بثياب النوم، وتتحوَّل العملية التعليمية المقدَّسة أو إجراء الامتحان المصيري والطلبة والأساتذة في البيوت وخلف قضبان الشاشات وأغلال وقيود الأزرار والأضواء بقمصان النوم.. وهذا مخالفٌ لطبيعة ومكانة ومادّة ومقصد العلم المقدس.. وقد أجريتُ الكثير من الحوارات والمناقشات مع قطاع مهمّ من الأساتذة الذين حاورتهم واشتكوا لي من هذه القوالب التعليمية التي أفرغت ووجَّهت العملية التعليمية نحو فضاء الفردانية الغربية، والوِحدانية اللادينية التي عليها الغرب الأناني.. وقزَّمت روحانية عملية التعليم المقدسة في الإسلام وفي قيمنا الدينية والوطنية.. وتصوروا جيلا سينشأ على هذه النفايات الغربية المستوردة، ثم نفرضها دون استئذان هذه الأمة، ونتوهّم أنها ناجحة باعتبار نجاحها في بيآتها وبين صانعيها ومنتجيها.. كما ظن أولئك المستلبون.. ثم تفشل ولا يخسر علينا هؤلاء المستلبون سوى عبارة “كنا نجرِّب فيكم”.

ولنا أن نتساءل هنا: ما مصير كل تلك المشاريع التي استوردتموها من الغرب الكافر والشرق الملحد والمخالف لكم في كل شيء؟ ماذا صنعتم بالتسيير الاشتراكي للمؤسسات في عهد 1962-1965م وبالاشتراكية الماوية وبروليتاريا الفلاحين؟ وماذا صنعتم عندما استوردتم الاشتراكية الماركسية اللينينة سنوات 1965-1978م وبالثورة الزراعية والصناعية والثقافية؟ وماذا استفدتم عندما استوردتم نظام اقتصاد السوق والانفتاح سنوات 1979-1991م؟ وماذا استفدتم من مستورداتكم من الآخر المخالف والمغاير سنوات 1992-2019م؟ وماذا؟ وماذا؟

لقد كلّمني صديقٌ لي يعمل أستاذا في الجامعة الجزائرية صُنِّف ضمن أفضل ثلاثين أستاذ رياضيات في العالم هذا العام، بأنه قادرٌ على صناعة منصة تعليم عن بُعد أفضل من هذه المستورَدة بملايين الدولارات، ولكن داء التبعية للغرب واستيراد منجزاته مازال مستفحلا في القائمين على تسيير شؤوننا، كما لي صديقٌ له ابن عبقري في هذه التصميمات قادرٌ على صناعة أفضل من منجز الغرب المستورَد..   ولكنني لا دخل لي في تسيير الشأن العام.. وليعلم الجميع أن هذه المستوردات والمقتنيات الناجحة في بلادها ليس بالضرورة أن تنجح هنا، حتى وإن كدّستموها بالأطنان كعادتكم فإنّ مصيرها مقبرة الجزار. وهذا أمرٌ ظللتم تجرِّبونه منذ الاستقلال إلى اليوم.

وما أود أن تعرفوه أنّ نجاح أي مشروع يجب أن يتضمن جملة من مقوِّمات وعوامل النجاح، وعلى رأسها الارتباط بالواقع الحياتي للناس والتواجد اليومي مع جحافل الطلبة الجامعيين المصابين بالعطالة، والمشتاقين –حسب الدراسات الميدانية- للتعليم عن قرب لا عن بُعد.. ومع جيش الأساتذة الذين شبعوا راحة وبلهنيةً وارتخاءً.. فمرحى لكم بمستورَدكم الجديد.. ومرحى بآلتكم الجديدة التي ستلد وتفقس لنا ملايين الكائنات الحلزونية والرخوية.. ألا فلنهلل للاستيراد.. وليهلل الاستيراد لأمثالنا.. ألا فليحيا الجنون، ولنعش له، وليعش لنا، وله خُلقنا منذ أن تنكّبنا الطريق السوي.. أللهم أعنّا على ميلاد ملايين الكائنات الرخوية الجامعية في السنوات القادمة.. ففرِّخوا وفقسوا واطبخوا منها المزيد.. أللهم اشهد أني بلغت.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!