الرأي

من أولمبياد الرياضيات إلى “مخيّماتها”!!

ح.م

من المبادرات المتميزة في المجال العلمي تلك التي تسعى إلى إبراز نخبنا من التلاميذ والطلبة عبر البلاد. وما أحوجنا إلى مثل هذه المبادرات على المستوى الرسمي وغير الرسمي!

أولمبياد الرياضيات

وفي هذا الباب لا يسعنا إلا أن نذكر بأسف شديد ما حدث لمشاركة الجزائر في أولمبياد الرياضيات العالمية : فبعد أن انطلقت مشاركتنا في السبعينيات تعثرت في التسعينيات، ثم انطلقت مجددا قبل عشر سنوات، ثم توقفت، وإثر ذلك عادت مجددا عام 2015 بعد أن تعاونت وزارة التربية مع أحد المدربين الجزائريين اللامعين العاملين في الخارج، وهو الأستاذ مليك طالبي.

وهكذا شاركت الجزائر 3 مرات متوالية (2015-2017) بعد تدريبات متميزة تتم خلال 4 دورات سنوية (سبتمبر، ديسمبر، مارس، جوان). وقد تحصل فريقنا في كل مرة على نتائج مشرّفة. وكان العزم معقودا على أن تتحسن تلك النتائج بتكثيف التدريبات مستقبلا. وكان من المنتظر أن تنطلق التدريبات الخاصة بفريقنا لهذه السنة (2018) خلال سبتمبر الفارط لأن المنافسات العالمية تتم دائما في شهر جويلية من كل عام.

غير أن وزارة التربية فاجأتنا بعدم تنظيم تدريبات سبتمبر 2017، ثم استدركت الوضع بطريقة محتشمة في ديسمبر فحاولت تدريب الفريق باللجوء إلى مجموعة مفتشين بدون مشاركة الخبير الدولي مليك طالبي، ولا ندري أسباب غياب هذا الأخير، لكنه كان واضحا بأن العلاقات بينه وبين وزارة التربية ساءت إلى حد كبير.

وتواصلت العملية في شهر مارس الجاري بنفس طريقة ديسمبر! والسؤال المطروح الآن : هل سيشارك فريقنا هذه السنة؟ ونحن نخشى اليوم أمرين أحلاهما مرّ : ألا يشارك الفريق أصلا، أو أن يشارك ويأتي بنتائج مؤسفة نظرا لسوء التدريب كمًا وكيفًا. من حيث الكم فالفريق بحاجة إلى تدريبات أكثر كثافة، ومن حيث الكيف فالفريق يحتاج إلى مهارات تدريبية من نوع تلك المتوفرة في الزميل مليك طالبي.

كنا نعتقد أن قطار هذا النوع من النشاطات العلمية قد وضع، بدون رجعة، على السكة غير أن الوضع الراهن لا نراه مطمْئنا. وما يثبت أيضا عدم وضوح الرؤية لدى المسؤولين أنهم قرروا خلال السنة الماضية إجراء تدريبات للمنافسات في مجال الفيزياء، وقد انطلقت قبل سنة بهدف إعداد مشاركة الجزائر في المنافسات العالمية لهذا العام، ثم ألغيت التدريبات اليوم!

والحقيقة أننا لا نفهم هذا التهاون واللامبالاة عندما يتعلق الأمر بالمشاركة في المنافسات الأولمبية العلمية التي تخدم التميز والتنافس بين تلاميذنا. فمن المسؤول يا ترى عن تعثر هذا المسار؟ قد يقول قائل إن المسؤولين المركزيين لهم من المشاكل اليومية الناجمة، بوجه خاص، عن الاضطرابات في المدرسة ما يغنيهم عن الاهتمام بالنخبة. وبطبيعة الحال فهذه حجة مردودة على أهلها لأن المسؤوليات موزعة على أصحابها والطاقم القائم على نجباء التلاميذ ليس هو المسؤول عن حل المشاكل المترتبة عن تلك الاضطرابات التي تمس قطاع التعليم!

المخيّم الرابع للرياضيات

هذه السلوكات التي عودتنا عليها السلطات المسؤولة منذ التسعينيات كانت أحد دوافع الأستاذ عبد الغني زغيب (مدير البحث في المركز القومي للبحث العلمي الفرنسي) لإطلاق فكرة “مخيم الرياضيات” في صيف 2016 بعنابة، ثم كانت طبعته الثانية بالوادي في ربيع السنة الماضية، وتلته الطبعة الثالثة بالقبة (المدرسة العليا للأساتذة) في شهر أوت الماضي، وعاد المخيم في طبعته الرابعة إلى الوادي (24-29 مارس 2018) على أمل أن تحتضن وهران المخيم الخامس خلال الصيف القادم.

ويتمثل المخيم في استقطاب ألمع طلبة الرياضيات في الجامعات الجزائرية، وكذا بعض طلبة الثانوي لمدّهم بزاد إضافي في الرياضيات مخصص للنخب يزيد في تألقهم. أما المؤطرون فهم متطوعون من خيرة أساتذة الرياضيات في الجامعات.

لقد تعاونت مديرية التربية بالوادي مع المنظمين فوفّرت مرفقا تربويا جميلا (متوسطة أحمد التجاني) يحتوي على سكن للطلبة وعلى أقسام دراسية ومطعم. وتكفل الخيّرون من أهل المنطقة، وعلى رأسهم “مجمّع وُرود”، بتمويل الإطعام ونفقات مختلفة أخرى خلال الأسبوع، علما أن الدروس كانت تدوم حوالي 8 ساعات يوميا. أما السلطات الولائية وكلية العلوم ومخبر الرياضيات بجامعة الوادي فأخذت على عاتقها إقامة الأساتذة وكانت حاضرة في التنظيم. وقد رحب الجميع بهذه التظاهرة التي يأمل أصحابها أن تكون تقليدا علميا يُقتدي به في جميع فنون العلم وفي أماكن أخرى.

والواقع أن من تبنّى تنظيم التظاهرة هو الجمعية الولائية “الخوارزمية للعلوم” التي تأسست في الوادي عام 2005. وفي هذا السياق قام رئيسها أستاذ الرياضيات المتقاعد مسعود عبد اللاوي بجهود مضنية مع رفاقه، خلال شهور طوال، لإنجاح التظاهرة رغم بعض العوائق الإدارية التي تعاني منها الجمعية المتمثلة بوجه خاص في عدم التمكن من تجديد اعتماد الجمعية لحد الساعة.

أما الوافدون من الطلبة فأتوا من جميع مناطق الولاية ومن مؤسسات جامعية عديدة عبر الوطن. وتجدر الإشارة إلى أنه عرفانا بدور الرياضياتي الفرنسي مارتن زرنير Zerner (1932-2017) الرائد في بعث الرياضيات في جامعة الجزائر غداة الاستقلال فقد سمي المخيم الرابع باسمه.

تميّزت هذه الدورة بمحاضرة صباحية يومية حول نظام التموضع العالمي (جي بي آس) استعرض من خلالها الأستاذ جمال ضو (من كلية العلوم بجامعة الوادي) مراحل نشأة هذا النظام ودور الرياضيات فيه وارتباطه بمفهوم النسبية. وبرز من خلال هذه السلسلة من المحاضرات أن الرياضيات -حتى المجرد منها- لها دورها في تصنيع أحدث الأدوات التكنولوجية.

كما عكف المحاضرون الآخرون، حمزة خليف وعبد الفتاح فارح (الوادي) وموسى بن أم هاني (المسيلة) ومهدي بلروطي (باب الزوار) وسمير بكارة (وهران) على تناول مواضيع شتى في مختلف فروع الرياضيات (هندسة وتحليل وجبر). أما طلبة التعليم الثانوي فخُصصت لهم دروس مختارة تولت إلقاءها كوكبة من خيرة أساتذة التعليم الثانوي بولاية الوادي فكانت الفائدة أعم مما كان متوقعا. وهؤلاء الطلبة النجباء لم يأتوا من مختلف أنحاء القطر للاستماع فقط بل كُلفوا قبل مجيئهم بإعداد مواضيع محددة قاموا بعرضها ومناقشتها ضمن مداخلات مسائية.

وكان ضيف المخيم الأستاذ أحمد مصطفاوي، رئيس قسم المعلوماتية في جامعة فرانش كومتي (فرنسا) ورئيس جمعية هناك تهتم بالنخبة. فتحدث عن خصوصيات النخبة وتكوينها ووعد بتقديم الدعم. أما عبد الغني زغيب، صاحب فكرة المخيم، فلم يلق محاضرات لكن نشاطات المخيم ما كانت ستعرف النجاح الذي سجلته لولا براعة زميلنا في تسيير الجلسات والمناقشات فيها، وهي براعة تدعمها سعة اطلاعه وتعمقه في الأفكار الرياضياتية المختلفة.

نأمل أن يدوم نجاح هذا المخيم، الذي جمع نحو 50 مشاركا من طلبة وتلاميذ ومكونين، وأملنا كبير أيضا في أن يُؤخذ بهذه الفكرة في اختصاصات أخرى من قِبل زملاء آخرين في انتظار أن تعي السلطات العمومية بدور هذه النشاطات وتُوليها الأهمية التي تستحقها.

مقالات ذات صلة