-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

من خَدعنا بفلسطين انخدعنا له!

سلطان بركاني
  • 6186
  • 0
من خَدعنا بفلسطين انخدعنا له!

أُثر عن صحابيّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، عبد الله بن عمر بن الخطّاب، رضي الله عنهما، أنّه كان إذا اشتدّ إعجابه بشيء من ماله قرّبه لله جلّ وعلا، فكان رقيقه ربّما شمّر أحدهم فيَلزم المسجد، فإذا رآه ابن عمر على تلك الحال الحسنة أعتقه، فيقول له أصحابه: يا أبا عبد الرّحمن، والله ما بهم إلاّ أن يخدعوك، فيقول ابن عمر: “من خدعنا بالله عزّ وجلّ انخدعنا له”.

هذا المبدأ الذي التزمه عبد الله بن عمر في تعامله مع رقيقه، امتثلته الأمّة في العقود المتأخّرة من تاريخها، مع كلّ من يُظهر الانتساب إلى دينها، ويتبنّى قضاياها الأساسية، وعلى رأسها قضية فلسطين التي لا تزل القلوب الحيّة تنبض لها والألسن الصّادقة تتحرّك بالحديث عنها.

عندما أدرك أصحاب المشاريع الفئويّة والطّائفيّة بأنّ قضية فلسطين هي القضية الوحيدة التي تحرّك الأمّة بأكملها، وبأنّها الجرح النّازف الذي يئنّ له كلّ مسلم، سعوا جاهدين لاستغلالها في التّرويج لمشاريعهم، وقد استطاعوا الوصول إلى بعض مآربهم، وأمكنهم استمالة كثير من المتحمّسين من هذه الأمّة ونصّبوهم -وربّما نصّبوا أنفسهم- محامين بأجرة وبغير أجرة عن المشاريع القومية والطّائفيّة.

كانت البداية مع دعاة القومية العربيّة، الذين تاجروا بقضية فلسطين لأكثر من 3 عقود من الزّمان، وأشبعوا الأمّة خطبا رنانة، وشعارات برّاقة، وأسمعوها جعجعة، لكنّهم لم يُروها طحينا، لتكتشف في النّهاية أنّ كلّ تلك الخطب والشّعارات، إنّما كان الهدف منها تحويل القضية الفلسطينيّة من بعدها الإسلاميّ إلى بعد عربيّ، وتحويل صراع الأمّة مع العدوّ المحتلّ، من صراع إسلاميّ صهيونيّ إلى صراع عربيّ إسرائيليّ، ثمّ إلى مفاوضات واتّفاقات، بيعت فلسطين بموجبها بأبخس الأثمان والأعطيات.

أدركت الأمّة زيف الشّعارات القوميّة، فانفضّت عن المروّجين لها، وولّت لهم ظهرها، وهو ما مهّد لظهور تاجر جديد على السّاحة، هو إيران ما بعد الخمينيّ، التي حاولت استغلال حالة الإحباط والاحتقان التي وصلت إليها الأمّة بعد افتضاح أمر دعاة القومية العربية، فتبنّت القضية الفلسطينية، وأنشأت فيلقا في جيشها أسمته “فيلق القدس”، وأطلقت شعارات جديدة، كان بعضها صادما، على شاكلة شعار “سنحرّر القبلتين (مكّة والقدس)”، وشعار “الطّريق إلى القدس يمرّ من بغداد”، لكنّ الأمّة غلّبت حسن الظنّ، وتغاضت عن أمثال هذه الشّعارات، لصالح شعارات أخرى رأت فيها خلاص فلسطين، مثل شعار “الموت لأمريكا وإسرائيل”، وشعار “سنرمي إسرائيل في البحر”، واغترّت بالمنّ المتواصل الذي تُتبع به طهران مساعداتها التي تقدّمها لبعض الفصائل الفلسطينيّة، ولم تهتمّ الأمّة كثيرا بمعرفة ماهية تلك المساعدات، وهل هي لوجه الله ولصالح الأمّة المسلمة، كما لم تتساءل عن فعالية الأسلحة التي تتعمّد إيران إرسالها في بعض الأحيان عبر طرق تعلم سلفا أنّ العدوّ سيكتشفها ليُعلِن عن “حجز أسلحة إيرانيّة كانت موجّهة إلى الجهاد الإسلاميّ وحماس”!، كما لم تهتمّ الأمّة بمعرفة إن كانت أسلحة المقاومة الفلسطينيّة التي دكّت العمق الصّهيونيّ هي أسلحة إيرانيّة أم أنّها أسلحة تمّ تطويرها محليا بدعم ماليّ يأتي أكثره من جيوب الصّادقين الباذلين في هذه الأمّة، ممّن لا يريدون أن يُذكروا أو يُشكروا؟.

لقد اغترّ كثير من الشّباب بأصحاب الحناجر الصدّاحة من أتباع المشروع الإيرانيّ الطّائفيّ الذين كانت عباراتهم تنطق باسم مشروع الأمّة، بينما كانت فلتات ألسنتهم ومكوّنات الدّيكور والخلفيات التي يقفون أمامها تنطق باسم الطّائفة والمذهب، لتبعث إلى شباب الأمّة رسالة مفادها أنّ هذه العنتريات “اللّغلوغية” وهذه البطولات “الحُنجورية” إنّما هي نتاج المذهب الذي ننتمي إليه.

استطاعت إيران بأموالها ومُغرِيات مذهبها، وبشعاراتها الرنّانة، أن تغوي كثيرا من الشّباب وتسوّل لهم اعتناق مذهب الغلوّ والخرافات والتّكفير واللّعن والثّارات والمتعة والأخماس واللّطميات، كما استطاعت أن تكسب ولاءهم لسياساتها وخياراتها، فأصبحوا إيرانيين مع وقف التّنفيذ، كما أمكنها أن تستميل وتُغري كثيرا من الكتّاب والإعلاميين وتسخّرهم لتلميع مشروعها الطّائفيّ وإظهاره على أنّه مشروع الأمّة المنتظر الذي لن تتحرّر فلسطين إلا بالولاء الكامل له.. كتّاب وإعلاميون يمارسون إرهابا فكريا ضدّ كلّ من ينتقد السياسات الإيرانيّة، أو يحاول إسقاط القناع عن حقيقة وتاريخ المذهب الذي ترعاه إيران وترصد ميزانيات ضخمة لتروّج له في العالم الإسلاميّ، ويربطون ربطا عجيبا بين إيران والقضية الفلسطينيّة، فكلّ من ينتقد إيران فهو بالنّسبة إليهم عميل للمشروع الصّهيونيّ، يحاول إلهاء الأمّة عن قضية فلسطين!.

مكثت الأمّة ما يقرب من عقدين ونصف العقد من الزّمان، وهي أسيرة للخطابات الإيرانيّة، حتى كان الاحتلال الأمريكيّ للعراق عام 2003م، واضطرّت إيران في غمرة النّشوة بعودة بلاد الرّافدين إلى حضنها الدّافئ! إلى الكشف عن وجهها الطّائفيّ، وهي تطلق أيدي عملائها وتؤزّهم لممارسة أبشع صور التّطهير المذهبيّ، تحت الرعاية السامية للمحتلّ الأمريكيّ.. ورغم انكشاف الحقيقة أكثر بعد إعدام الرّئيس العراقي صدّام حسين صبيحة عيد الأضحى من عام 2006م، إلا أنّ بعض المتحمّسين ظلّوا ينافحون عن إيران ويتكلّفون المبرّرات لسياساتها في أرض الفرات، حتى كانت قاصمة الظّهر التي أسقطت آخر أوراق التّوت، عندما انطلقت الثورة السورية في 2011م، وأبت إيران إلا أن تنتصر للطّائفة على حساب الدّين، وتقف إلى جانب الجلاّد ضدّ ضحيته، فأرسلت فيلق “القدس” و”حزب الله” إلى العراق وسوريا بدلا من إرسالهما إلى القدس، وقامت بتشكيل وتدريب وتسليح عشرات المليشيات الطّائفيّة، وقامت بإرسالها إلى سوريا والعراق، لتمارس أبشع صور التّطهير الطائفي والتّهجير المذهبيّ تحت مظلّة الطيران الأمريكيّ والغربيّ ثمّ الرّوسيّ والصّهيونيّ.

لقد سقط القناع عن حقيقة المآرب الإيرانيّة، وتبيّن بأنّ شعارات تحرير القدس وفلسطين، والموت لأمريكا وإسرائيل، كانت وعلى مدار أكثر من 36 سنة، مجرّد مساحيق خادعة لتغطية الوجه الطّائفيّ البغيض للسّياسات الإيرانيّة في الدّاخل الإيرانيّ وفي العالم الإسلاميّ؛ فبدأ الصّادقون الذين اغترّوا بالمشروع الإيرانيّ ينفضّون من حوله، ولم يعد يدافع عنه إلا لفيف من المستنطقين والمستكتبين الذين باعوا دينهم بعرض إيرانيّ قليل، واختاروا أن يتجنّدوا للطّعن في الشرفاء الذين يرفضون أن تُرتهن الأمّة للمشاريع المتكالبة عليها، ويأبون أن تظلّ قضايا الأمّة يسومها ويتاجر بها المفلسون.

لقد انخدعت الأمّة للمتاجرين بقضية فلسطين، من القوميين والطّائفيين، وسارت عقودا متوالية بمبدأ “من خدعنا بفلسطين انخدعنا له”، لكنّها الآن ستسير بمبدأ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه “لستُ بالخِبّ ولا الخِبّ يخدعني”.

الأمّة أدركت أخيرا بأنّ فلسطين لن يحرّرها دعاة القومية، ومدمنو التّنسيق والمفاوضات العبثية، ولا دعاة الطائفية والمشاريع الشّعوبيّة، الذين يحملون في قلوبهم الغلّ والحقد للصّحابة الفاتحين، ويطعنون في الأبرار المرضيّين الذين حملوا الإسلام إلى ديارهم!.

طريق القدس بدأت تتّضح معالمه، وسيكون معبّدا بعد أن تُقطع الحبال المتدلّية إلى اليهود من الغرب والشّرق، ((ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاس))، وعمّا قريب سيُسمع زئير أسود فلسطين الذين لن يكونوا من أصحاب اللّغاليغ الطّويلة والخطابات الرنّانة، والتّهديدات الفارغة، لأنّ اليهود لن يسمعوا منهم سوى خطاب واحدا ووحيد، يقول: “الجواب ما ترون لا ما تسمعون”.. لا يهمّ أن يكونوا اليوم على الأرض، أو يكونوا في الأصلاب، المهمّ أنّهم قادمون.

 

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!