الرأي

من: محند واعراب حنّوز…….. إلى: آلان جوبي

رأيت منذ يومين فيما يرى النائم أربعة أشخاص مقبلين عليّ، فلما وصلوا إليّ ألقى كبيرهم تحية الإسلام، واستأذنني في الجلوس، فرددتُ التحية ورحبتُ بهم، وأذنت لهم في الجلوس.

قال كبيرهم: أنا محند واعراب حنّوز، من بلدة بني يعلى، وأعمل مساعد طبيب في بلدة خرّاطة الجميلة، التي شوّهها الفرنسيون بجرائمهم التي لو اجتمع الإنس والجن لوصفها لأعجزتهم، وهؤلاء الشبان هم أبنائي: حنفي، وعبد المجيد، والطيب، وقد حبوت لهم وأبوت (❊) حتى صاروا شبانا يملؤون العين، ويتدقون حيوية ونشاطا، ويرجون من الحياة مايرجوه كل شاب؛ أن يتخذ صاحبة، يرزقه الله – عز وجل- منها ذرية طيبة.. يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله الغني الكريم.

دعوت للوالد وما ولد بكل خير، وأن يحقق لكل واحد ما يرجوه من خيري الدنيا والآخرة..

قاطعني الوالد قائلا: أمّا خير الآخرة فرجاؤنا في الله كبير أن يحققه، وأما خير الدنيا فلا سبيل إليه..

عجبت من يأس ذلك الوالد، وذكّرته أن رحمة الله قريب من عباده، وعليهم أن يدعوه ويلحوا في الدعاء بإخلاص فيستجيب لهم، أليس هو القائل في كتابه الكريم: “ادعوني استجب لكم؟” أليس هو أصدق القائلين؟

قال الوالد: بلى، ولكن هؤلاء الشبان لم يعودوا من عمّار هذه الأرض، فقد تدخّل وحوش آدميون، أو آدميون وحوش، وأنهوا حياة هؤلاء الشبان في لحظة واحدة..

أحسست بقشعريرة تهز جسمي، وسألت الوالد المكلوم:

متى كان ذلك، وأين، وكيف؟

صعّد الوالد من أعماقه زفرة حرّى، وقال:

كان ذلك في أثناء مجازر 8 ماي 1945، في “شعبة الآخرة” قرب خراطة، وأما كيفية القتل فلن يستعملها إلا إنسان فقد إنسانيته، وتجرد من الأحاسيس، حيث جاء الفرنسيون بهؤلاء الشابان وآخرين، وألقوا بهم من شاهق ليصلوا إلى سفح الجبل أشلاء، فهذه رأس تهشمت في صخرة، وهذه أحشاء اندلقت في شجرة، وهذا جسدٌ انشطر شطرين.. كل ذلك وقع أمام ناظري، وأنا أسمع قهقهات أولئك الوحوش الفرنسيين وسخرياتهم..

ترحمت على أولئك الشبان، وعلى جميع ضحايا الإجرام الفرنسي، وسألت الله – الكريم المنان- أن يتخذهم شهداء، وأن يكرم نزلهم، وأن يقعدهم مقاعد الصدق مع النبيين والصديقين والشهداء، والصالحين.. ثم سألت محند واعراب حنوز: وأنت، ماذا فعل فيك أولئك الفرنسيون الأنذال الذين استدبروا الألمان، ولم يصمدوا أمامهم يوما أو بعض يوم.. وعجزوا عن تحرير بلدهم، الذي لم تحرره إلا قوات الحلفاء، وأبناء البلدان الإفريقية، وفي مقدمتهم الجزائريون؟

صعّد محند واعراب زفرة أخرى؟ وقال: لقد جذبني أحد أولئك الأنذال، وطلب مني أن أهتف بحياة فرنسا… فأبى عليّ ذلك ديني، وجزائريتي، وكرامتي.. فجن جنون ذلك الرعديد، الذي يستأسد بسلاحه الفتاك أمام إنسان أعزل، ثم صاح في أصحابه أن قطّعوا يديه، ورجليه، ثم ارموه إلى أسفل الجبل…

تأثرت مما قصّه عليّ محند واعراب، وتذكرت الجرائم الفرنسية منذ الاحتلال، وسلّيته بكلمات طيبات.. ثم قال لي: لقد جئت مع أولادي لأطلب منك أمرا أرجو منك أن تنجزه لي.. فأجبت بأنني على استعداد إن كان هذا المطلوب مني في مكنتي.. فقال بإذن ذلك ميسور، وهو أن تكتب رسالة باسمى إلى آلان جوبي، وزير خارجية فرنسا، ليعلم ماجرى لي ولأولادي الثلاثة على يد الجيش الفرنسي ولو كان ابني الرابع الونّاس معنا للقي المصير نفسه.. سألت محند واعراب: وكيف نجا ابنك الونّاس من أولئك الوحوش؟ فأجابني بأنه كان في فرنسا، التي جنّدته ليدافع عنها.. فكان جزاؤه وجزاء المجنّدين الجزائريين هو قتل آبائهم وإخوانهم، وانتهاك أعراضهم، وقصف أكواخهم بالطائرات والسفن الحربية، وإحراق مزارعهم، واتلاف أقواتهم، والزجّ بمن نجا في الزنازن والمحتشدات في أسوأ الظروف وأقساها.. سألت محند واعراب حنز: لماذا توجيه الرسالة إلى آلان جوبي بالذات من دون الفرنسيين الآخرين؟ فأجاب: أوجهها إليه لثلاثة أمور:

) لأنه يجول ويصول في دول العالم، ويعتلي منابر المنظمات والهيئات العالمية، مدعيا أن فرنسا دولة القيم السامية، والمبادىء النبيلة، مستغلا في تلك الدعاية جهل الجاهلين، ونسيان الناسين، وخوف الخائفين، وطمع الطامعين، ونذالة الخائنين..

) أنه من الديغوليين الذين ينقنقون الدهر مدعين أنبل المثل الكريمة وينسون أو يتناسون أن جرائم 8 ماي 1945، ارتكبت في عهد هذا “الزعيم النبيل” وتحت حكمه، ولم تكن له شجاعة الرجال الأحرار الشرفاء الذين يعترفون بجرائمهم؛ بل أضاف عارا آخر عندما شكل أصغر لجنة في التاريخ البشري للتحقيق في أكبر وأبشع جريمة في التاريخ البشري، هذه اللجنة تتكون من ثلاثة أشخاص أحدهم خائن من الجزائر، ودام عملها (24) ساعة، حيث بدأت يوم 25 ماي ، وأنهيت مهمتها يوم 26 في الساعة السابعة مساء، بأمر من الجنرال “النبيل” الذي هو أسوة آلا جوبي..

) لأنه صرح تعليقا على قول والد محمد مراح، الذي قتل سبعة من الفرنسيين (ثلاثة جنود من إفريقيا، وثلاثة أطفال ومعلم يهود): سأقاضي الحكومة الفرنسية لتجاوزاتها في قتل ولدي، فقال آلان جوبي معلقا عى ذلك: “لو كنت والدا لهذا الوحش فسأغلق فمي من العار”(1). فليكن، هذا الكلام الذي قاله والد محمد مراح “عارا”، ولكنه “عار” شخص واحد كان في ظروف غير عادية، لأن الحكومة الفرنسية كانت قادرة على التعامل مع محمد مراح بطريقة أخرى، كأن تقبض عليه وتحاكمه، ولكنها فضلت ذلك الأسلوب لسبب في نفسها، سيظهر مهما طال الزمان – ولكن ماهو قول آلان جوبي، في جرائم الدولة الفرنسية من 1830 إلى الآن، وقد ارتكبها “عظماء” فرنسا قبل سفهائها، وهذه الدولة نفسها تعتبر تلك الجرائم “أمجادا” تفتخر بها، وترفع بها خسيستها، وتسن لها قوانين التمجيد والافتخار؟ فأي الفريقين أجدر بغلق الفم، والإحساس بالعار”.

إنه ليس شرفا ونبلا أن يعتبر وزير خارجية دولة “عظمى” كلمة قالها إنسان بسيط، مفجوع في ولده متأسف على قتلى أبرياء، “عارا” ويغمض عينيه، ويسدّ أذنيه، ويلجم فمه عن آلاف الجرائم أمرت بها “دولة” ونفذها أناس يدّعون “العظمة” و”الشرف” و”المجد” من أماثل بيجو، ولافيجري، ودوغول… هذه هي رسالة محند واعراب حنز، أنقلها إلى ألان جوبي، وهو يجمع أوراقه وملفاته لمغادرة الكي دورسي.

وأما أنا – ناقل رسالة محندواعراب – فأقول لأن جوبي: لو كنت في مكانك لآعتليت برج إيفل ورميت نفسي لأسقط جثة هامدة تخلصا من عار أسلافي الذي قرنا وثلاثة وثلاثين سنة. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، القائل: “الناس معادن”، والقائل: “إذا لم تستح فافعل ماشئت”.

هوامش:

) حبوت وأبوت: فعلت ما يفعله الآباء لأبنائهم.

1) جريدة الشروق اليومي: في 31 / 3 / 2012. ص2.

مقالات ذات صلة