الرأي

من نُصَدِّق: المفتش العام للبيداغوجيا أم المفتش العام للإدارة؟

ح. م

في جويلية 2015 صرح المفتش العام للبيداغوجيا في وزارة التربية، السيد فريد بن رمضان، لوسائل الإعلام أن 80 % من نصوص الكتب المدرسية مجهولة المصدر ومأخوذة من الأنترنت… وأن 2 % منها فقط ألفها كتّاب وأدباء جزائريون.

وقال إن هذا الأمر سيتم تداركه حسب ما أوصت به الندوة الوطنية المنعقدة خلال اليومين 25-26 جويلية 2015، كما ذكر أنه ستعقد لقاءات مع الكتاب والأدباء الجزائريين لاختيار النصوص المناسبة للتلاميذ، هؤلاء الكتاب الجزائريون الذين ستطرح عليهم وزارة التربية تلك الأسئلة لم يتمكنوا -حالهم كحال زملائهم في المعارف الأخرى- حتى من إنشاء اتحاد محترم، فهم إما تحت سطوة الحاكم وإما في شقاق يشتت الأصوات.

 

تضارب الأرقام

وأكد المفتش أن مصالح وزارة التربية تسعى إلى تدارك هذا الخطأ لترفع نسبة تواجد التراث الوطني في الكتب المدرسية إلى 90 % لكي تصبح الكتب المدرسية “ذات صبغة وطنية تعتمد على التراث الوطني”. 

أما المفتش العام للإدارة، السيد نجادي مسقم، فذكر مرتين خلال ندوة نظمها التلفزيون الوطني يوم 23 أوت 2016 أن الكتب المدرسية ستضم نصوصا جزائرية ومغاربية بنسبة 80%. نلاحظ هنا أن النسبة التي كانت قررتها الوزارة قبل سنة هي 90 % جزائرية (دون ‘المغاربية’)، والآن أصبحت 80% جزائرية مغاربية، تجدر الإشارة بهذه المناسبة إلى أن الحصة التلفزيونية المذكورة دامت ساعة ونصف تقريبا وضمت أربعة مفتشين كبار من وزارة التربية كانوا قد أدوا دورهم الإعلامي في التعريف بالجديد بتناغم تام، كما تعزف السيمفونية الهادئة! ولذا فما كان ينقص الحصة هو وجود بعض العناصر التي لها رأي آخر ليثق المواطن في تلك الرسالة الإعلامية الموجهة، والمؤسف أن قناتنا الوطنية لازالت في ضلالها ولا تؤمن إلا بأحادية الرأي.

وهكذا يتضح التضارب في هذه الأرقام التي أدلى بها المفتشان، وهو ما يجعلنا نشكك حتى في جدية الدراسة التي تمت، وأظهرت حسب السيد فريد بن رمضان أن 2% فقط من النصوص الحالية جزائرية في كتبنا المدرسية.

ومن جهة أخرى، من الواضح أن النصوص المشار إليها هي نصوص أدبية واجتماعية وفكرية وليست نصوص علمية محضة (رياضيات، فيزياء…). وعليه فالمقصود بها أساسا هي نصوص اللغة العربية التي تندرج في سياق تعلم هذه اللغة، وحتى إن قُصد بها أيضا اللغة الفرنسية فالأبرز هي اللغة العربية، بمعنى أن الوزارة تسعى إلى تكثيف النصوص العربية التي كتبتها أقلام جزائرية وأيضا مغاربية (حسب التصريح الأخير للسيد نجادي مسقم)، وعندما نمعن النظر في هذه التصريحات، وبافتراض صحة المعلومات، فإننا نستنتج أن 10 أو 20 % فقط من النصوص العربية ستكون لكتاب غير جزائريين-مغاربيين وهذا “خدمة للتراث الوطني”. 

بطبيعة الحال، فلا نقاش في أهمية وضرورة إبراز تراثنا الوطني المتعدد الأشكال (فكر وأدب وفن وتاريخ، ومجتمع…)، غير أن تفضيل نص على نص آخر في باب تعلم لغة من اللغات وإتقانها والإحاطة بشؤونها وخصوصياتها لا ينبغي أن يتحكم فيه معيار الوطنية وحده.

 

أين هي مصلحة التلميذ؟

فإذا نظرنا إلى إنتاج مختلف البلدان العربية في باب النصوص التي تصلح أن تكون نصوصا مدرسية للإلمام باللغة العربية وآدابها وعبقريتها، فسوف نجد أن الجزائر خصوصا وبلاد المغرب العربي الكبير عموما قد ساهمت فيه بقسط وافر، لكنه لا يرقى إلى أن يكون نصيبه بنسبة 90 أو 80 %: لا نعتقد أن الدول المغاربية مجتمعة قد فاق إنتاجها إنتاج بلد كلبنان أو مصر! وهل إنتاج تونس مثلا فاق إنتاج سوريا؟ أو هل إنتاج المغرب تجاوز إنتاج السعودية؟ وما بالك في إنتاج ليبيا وموريطانيا مقارنة بإنتاج الأردن؟ أو إنتاج الجزائر أمام إنتاج العراق؟!

وما رأي هؤلاء مثلا في التفاتة مجلة من مجلات مؤسسة الكويت للتقدم العلمي، المتمثلة في إصدار كتيب كهدية مع كل عدد من مجلة التقدم العلمي، حيث نجد في هذه الكتيبات نصوصا علمية ممتازة بأسلوبها وتقديمها وسلاسة لغتها، وهي موجهة لأطفال المدارس وتتماشى مع متطلبات كتبنا المدرسية؟! ونحن، رغم جهلنا المطلق بعالم الرواية والقصة، فلا نشك في أن الفرق شاسع في النص وفي المضمون بين الروايات العربية، كروايات “العبرات” و”عرس بغل” و”ريح الجنوب” و”الشراع والعاصفة” و”ذاكرة الجسد” و”رأيت رام الله”، إلخ.

وإذا كان المفتشان العامان وحاشيتهما يبحثون عن نصوص سلسة أقرب إلى الأسلوب الصحفي الملتزم، فيمكنهم تصفح المجلات الأدبية والفكرية والصحف العربية الصادرة خلال حرب التحرير، وسيجدون فيها ما لن يستطيعوا فرزه من النصوص الممجدة لثورتنا… وهي تغص بالمواد التي يمكن أن تدمج في مجموعة النصوص المختارة في كتبنا المدرسية. وأما إن أرادوا نصوصا علمية مؤهلة إلى الدمج في كتبنا المدرسية مكتوبة بلغة عربية نقية بأقلام باحثين جادين فسيجدوها لدى كتّاب عديدين، من أمثال المغربي محمد المنوني (1915-1999) والتونسي محمد سويسي (1915-2007) والليبي مصطفى بن الأشهر (1940-2007) والمصريين مصطفى نظيف  (1893-1971) وعبد الحميد صبرة (1924-2013) واللبناني جرجي زيدان (1861-1914) والفلسطينيين قدري طوقان (1910-1971) وأحمد سليم سعيدان (1912-1991) وغيرهم كثيرون.

نعم! الأمر هكذا ينبغي أن يكون إذا كان القصد فعلا مصلحة التلميذ في موضوع تمكينه من اللغة العربية، فلماذا نقصي هؤلاء الأدباء والكتاب والعلماء غير المغاربيين الذين لهم باع طويل في هذا الشأن؟ ثم أليس من مهام وزارة التربية أن تسعى إلى العمل على ترسيخ فكرة تقارب الشعوب في ذهنية التلميذ بدل دفعه إلى التقوقع في “دُوّاره” ونكران أفضال الآخرين بحجة التركيز على التراث الوطني؟ وإذا أردنا أن نستفز المفتش العام للإدارة في قوله إن 80% من النصوص ستكون “مغاربية” فأولى به أن يحرص على إيجاد نصوص “مغاربية” تليق بالتلاميذ توضح لهم تعاسة اتحاد المغرب العربي الكبير وعجزه عن فتح الحدود التي تفصل بعض بلدانه!  

 

الوجه القبيح

ليس عيبا أبدا – بل العكس هو القاعدة الصحيحة- أن يعتز أي مواطن في أي بلد كان بوطنه و”دُوّاره” وبمسقط رأسه وبأهله وذويه وأن يحن إلى ذاك المكان والزمان حنينًا، وقد انتشر في الساحة العربية مصطلح مشترك جاء على منوال “الجزْأرة” و”المغْربة” و”التوْنسة” و”السوْدنة” واللبْننة” و”السوْعدة”… وأيضا “العوْمنة” و”المصْرنة” و”الأرْدنة” و”السوْرنة”، وهلم جرًا، وهو مفهوم يدعو إلى الاعتماد أولا على العنصر الوطني قبل غيره في تلك البلدان، وهذا أمر جميل ومحبذ.

غير أن ذلك يخفي وجهه الآخر القبيح الذي تستغله فيه فئات من تلك البلدان (فئات معظمها من أذيال الاستعمار) ساعية إلى تعميق التباعد بين تلك الشعوب التي تربطها اللغة والدين والمصير المشترك أحببنا أو كرهنا. وما نظن المفتشين العامين في البيداغوجيا والإدارة ومن حذا حذوهم في البحث عن النصوص العربية غافلين عن هذا الأمر. فهم يدركون بدون شك الهدف البعيد من هذا المسعى، كما أن القراءة ما بين السطور في النصوص الصادرة مؤخرا عن وزارة التربية تترك لدى قارئها هذا الانطباع وهذا التوجه المشبوه.

نحن نعتقد أنه بقدر ما ينبغي على المدرسة الوطنية الحقة السعي إلى ترسيخ الهوية الوطنية لدى التلميذ وإلى جعله يعتز بموطنه، بقدر ما يستوجب عليها دفعه إلى الانفتاح -شرقًا وغربًا وجنوبًا- على شعوب العالم قاطبة وعلى ثقافاتها، وبصفة خاصة تلك الشعوب التي تربطنا بها روابط متينة تبرز في كل سراء وضراء.

مقالات ذات صلة