-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

من يَصُون أصالةَ تراثنا الفنّي الغنائي الأوراسي؟

من يَصُون أصالةَ تراثنا الفنّي الغنائي الأوراسي؟

الفن مجال شاسع الأرجاء وميدان مترامي الأطراف، ويضم بين جنبيه صوّرا وأشكالا لا تحصى. وقديما قال الإغريق: (ars una, species mille)، أي: (الفن واحد، وأصنافه شتى)، مما يعني أن الفنون تشترك في هدف واحد وإن تعددت أنواعها التي ابتكرتها البشرية عبر مسيرتها التاريخية الطويلة. ولا تتوقف رقعة الفن عن التمدد والتوسع كلما خطا التقدم العلمي خطوات جديدة في طريق تطوّره. ويمثل في أيامنا الرسم بالحاسوب، مثلا، نمطا حديثا من أنماط الفن المبتكر.

يقسم التصنيف الأكثر انتشارا وتداولا الفنون إلى سبعة أقسام، ويضمُّ الغناء إلى قسم الفنون غير المرئية؛ لأنه يمكن الاستمتاع به والتجاوب معه من دون الحاجة إلى حاسة الرؤية التي تعوّضها الأذن. كما يمكن الحكم له بالقبول أو الحكم عليه بالرفض من خلال السمع. وترجمة الفن الغنائي لا تتم إلا بمرافقة أنماط أخرى من الفنون التي تخدمه كالفنون الأدائية والفنون التعبيرية. وهذا التداخل بين الفنون هو الذي يحيطها بالتعقيد.

لمّا كان موضوع التراث الفني الغنائي موضوعا يبلغ من السعة حجما لا يمكن لملمته والإحاطة به عرضا ومتابعة أو نقدا، فإنني سأقصر جهدي المتواضع في مقاربته مكتفيا بمثال الغناء الأوراسي الأصيل.

مازلت أذكر، وكأن الحدث الذي تكرّر معي عدة مرات قد جرى أمس أو قبل أمس، مازلت أذكر لما كنت طفلا غِرًّا أنني عندما أدخل ساحة مسكننا الأول عائدا من المدرسة أو من ساحة اللعب يتوارد على مسامعي صوتٌ ليّن رخيم وخفيض، وهو صوت والدتي، يرحمها الله، التي تؤنس نفسها بترديد أغنية من أغنيات التراث الأوراسي الأصيل وهي جالسة خلف منسجها، أو بالقرب من الموقد تعدّ لي قهوة أشربها والتهم معها قطعة خبز بلدي أقتل به جوع المساء. وكنت كلما سمعتها إلا ولجأت إلى تجميد حركاتي وكظم أنفاسي حتى استمتع لمدة أطول بنغماتها التي ما تزال تسكن أذنيّ. وكانت الأغنية التي ترددها والدتي كثيرا وتستهويني، هي التي تقول كلمات مقطعها الأول: (يا فارس جاء من قبلة.. يا بابا هذا من هو.. محمد زين الكلمة.. ولا إله إلا الله). وأما كلمات مقطعها الثاني، فتردد فيه: (والله الله ربي لا حال يدوم.. لا نرقد بابا خويا.. لا جاني نوم). وكانت تتصرف في بعض كلمات أغنيتها المفضلة أحيانا، كأن تقول: (محمد زين الطلعة) بدل قولها: (محمد زين الكلمة). وبعد أن أشبع نهمي في السماع إلى صوتها متخفيا في متعة، أمثل واقفا أمامها، فتنفرج أسارير وجهها عن ابتسامة وكأنها تقول: لقد كشفت أمرك مسبقا. وكنت، وقتذاك، أتساءل في عفوية وبراءة الصغار: من محمد هذا الذي تقصده والدتي؟. وأشير إلى أن والدتي الكريمة، ورغم رخامة صوتها الجميل، فإن حياءها كان يغلبها ويقهرها ويمنعها من الوقوف في صفوف النساء مغنِّية في الأعراس.

من أجل اكتشاف الأثر الانطباعي الذي تتركه هذه الأغنية في الأنفس، اقترحت سماعها على عدد من الأصدقاء المثقفين داخل الوطن وخارجه، وطلبت من كل واحد منهم أن يلخص لي تجاوبه وتفاعله وانفعاله معها في سطور قليلة بعد أن يسمعها. وقد قرأت في الردود القصيرة التي وصلتني استحسانا إيجابيا منهم جميعا مما يعني أن الفن الغنائي الأوراسي يمكن أن يتجاوز حدود المحلية ويتحرر من قيودها، ويذهب في مسيرته الترحالية بعيدا بلا جواز سفر. وقد رد عليّ أحد المستجوَبين بما يلي: (لقد دغدغت هذه الأغنية وتلك الحركات المتناغمة مشاعري، وقمت أشارك الفرقة حركاتها وتموجاتها بزهو وانفعال. وتأسفت لغياب أحفادي وحفيداتي عن البيت لمشاركتي هذه اللحظات الانفعالية الممتعة). ووجدت في كل الردود التي تلقيتها جوابا على من يزعمون أن إدخال الآلات الموسيقية الحديثة التي تغيِّر إيقاعات الفن الغنائي الأوراسي هو السبيل الوحيد لإشاعته وترويجه بين الناس وخاصة أولئك المنفصلين جغرافيا عن المنطقة التي وُلد ونشأ فيها.

يعتمد الفن الأوراسي الأصيل على قوة الصوت إذا كان الغناء فرديا، ويمثِّل هذا الخط في الأزمنة المتأخرة وفي صدارته المغني الموهوب ذائع الصيت عيسى الجرموني الحركاتي الأوراسي (1885ـ 1946م) الذي تُعادل حَنجرته (بفتح حرف الحاء وليس بضمها كما هو شائع خطأ) المدوية بحبالها الصوتية القوية حناجر عدة أشخاص يتزامنون في ترديد الكلمات نفسها. وهو مغن لا يعجزه أي مقام أو وزن موسيقي. واستطاع أن يصل إلى محافل العالمية إذ غنى في دار “االأولمبيا” الفرنسية. وأما الأدوات المرافقة له، فهي القصبة التي تصنع من ساق نبات الخَيْزُران بعد تجفيفها والدف “البندير” المؤلف من إطار دائري خشبي وجلد حيوان بعد إحسان تنقيته من الصوف أو الشعر وعلاجه بأوراق وقلف بعض النباتات لسد مساماته وطرد روائح تعفناته ومنحه الملاسة والليونة والرخاوة.

لما نعتبر المغني عيسى الجرموني الحركاتي الأوراسي حالة استثنائية وطفرة فريدة شعريا وصوتيا على المستوى الأدائي الفردي، فإن المظهر الإبداعي كثير الذيوع للفن الغنائي الأوراسي يبرز في الأداء الجماعي الذي تبلغ غايته مداها البعيد من ناحية الاستعراضية والاحتفالية، ويصنع متعة المتابعة والفرجة وحلاوة التماهي الوجداني. وإن كانت الفرقُ الغنائية التقليدية تنشط في الأعراس لنشر البهجة الشيقة وتشترك في المظهر التعبيري بشكل عامّ، فإن هناك بعض الاختلافات الطفيفة بينها نلاحظها في طريقة إخراج النغمات وسرعة صوت الغناء والضرب على البندير والتماوج في الرقصات. وتسمى هذه الفرق “الرحابة”؛ لأن كثيرا ما يفتتحون السهرات بأغاني ترحيبية تزف كرسائل ود وتحبّب بقدوم المدعوِّين، كما تسمى “السّبّاحة”.

لم يولد الفن الغنائي الأوراسي الأصيل الفردي أو الجماعي في الاستديوهات المغلقة، وإنما أبصر النور في الطبيعة المفتوحة، وتحت ظلال الأشجار الوارفة، وفي الحقول والحصائد أثناء قطف الغلال وجمع البذور، وفي منخفضات الوديان وأعالي الربوات، ولذا كانت كلماته تميل إلى ذِكر كل ما هو طبيعيٌّ وجميل وجذاب. وكانت أصوات من يؤدونه ورناتهم وأهاتهم وشهقاتهم طبيعية بما في ذلك صوت البندير وأنغام القصبة التي تنشأ من تحويل هواء زفير النافخ في جوفها إلى نغم مفرح يزيل الأكدار عن القلوب، ويجلب حنينا يهزّ وجدان المستمع، أو تخرجه أنينا محزنا فيه نزعات ألم وزفرات شجن.

كم أساءت الآلات الموسيقية الحديثة كالقيثارة والقيثارة الكهربائية والجرس وأجهزة المزج الرقمية التي يُستعمل فيها الحاسوب… وغيرها، كم أساءت بأصواتها الحادة والنشاز والدخيلة على الفن الغنائي الأوراسي في كل محاولات تهجينه وخلطه. وتسببت هذه الخطوة غير الموفقة حتى في تغيير مخارج بعض الكلمات في اللهجة الشاوية، وتشويهها تشويها ممجوجا ومستقبحا.

لم تنجب الدعوات المتوالية التي أرادت أن تمنح هذا الفن العريق مسحاتٍ حداثية وتحويرات عصرية إلا الانتكاسة والإعراض. وقاومت مناعته الذاتية الصلبة كل ضروب الانقلاب عليه، وظل محافظا على كيانه وسمته ومواصفاته. فكم أساءت الآلات الموسيقية الحديثة كالقيثارة والقيثارة الكهربائية والجرس وأجهزة المزج الرقمية التي يُستعمل فيها الحاسوب… وغيرها، كم أساءت بأصواتها الحادة والنشاز والدخيلة على الفن الغنائي الأوراسي في كل محاولات تهجينه وخلطه. وتسببت هذه الخطوة غير الموفقة حتى في تغيير مخارج بعض الكلمات في اللهجة الشاوية، وتشويهها تشويها ممجوجا ومستقبحا. وغاب عن أذهان الذين جازفوا بالسير في هذه الطريق أن من أنشأوا هذا الفن اعتمدوا فيه على وسائل مستصدَرة من بيئة العيش بكل نقاوتها وبساطتها.

لا يتوقف تميز الغناء الأوراسي الأصيل عند حدود الآلات البسيطة المستعملة فيه، وإنما يتعداه إلى كلماته وأشعاره الراقية والصافية من كل التعابير الماجنة والفاحشة غير الموزونة التي تزدري الحياء والوقار وتخل بالأدب، وتثير الغرائز الكامنة وتوقظها من مضاجعها، وتهيج العواطف وتستفزها استفزازا بهيميا. ولا يُقبل أن ننسى أن هذا الفن يتسم بمزية الالتزام، إذ سُخِّر للدفاع عن القضية الوطنية ومناهضة الاستعمار الفرنسي، وفضح دسائسه وأحابيله، وكشف خططه ومراوغاته، وتصدى لتلاعباته الماكرة. ومثلما كان وسيلة للترفيه والتنفيس وإطراب الخواطر، فإنه كان أداة للدفاع عن الشخصية الوطنية والذود عن حماها من المسخ والانحلال. وتوحي عمليات مزاولته في الطبيعة المفتوحة أنه فن متعلق بالحرية، ويرنو إلى التشبث بها حتى لما يُسخَّر لإتيان دور توعوي رسالي.

هذا الفن يتسم بمزية الالتزام، إذ سُخِّر للدفاع عن القضية الوطنية ومناهضة الاستعمار الفرنسي، وفضح دسائسه وأحابيله، وكشف خططه ومراوغاته، وتصدى لتلاعباته الماكرة. ومثلما كان وسيلة للترفيه والتنفيس وإطراب الخواطر، فإنه كان أداة للدفاع عن الشخصية الوطنية والذود عن حماها من المسخ والانحلال. وتوحي عمليات مزاولته في الطبيعة المفتوحة أنه فن متعلق بالحرية.

من جانب آخر، نلمح في ارتداء اللباس المحلي التقليدي من طرف عناصر الفِرق الغنائية في كل مناطق الأوراس قديما ما يؤكد صورة التباهي والافتخار بالموروث الانتمائي المادي والمحافظة عليه. ويساعد هذا اللباس المتمثل في الغندورة والبرنوس الخفيف والشاش على الحركة في رُكح الغناء بطلاقة وانسيابية، وبلا قيود معيقة. وفي مظهر اللباس الموحّد تعبيرات تترجم رسائل تربوية وأخرى تثقيفية دلالية ينتهي إلى مصبّ أهداف ترمي إلى نقلها بين الأجيال حتى تتمسَّك بتراثها الجميل، ولا تقبل التفريط فيه وتعريضه للضياع.

وُلد الفن الغنائي الأوراسي في بيئة غير البيئة التي يريد بعضهم نقله إليها نقلا مريعا ومخيفا ولو باغتيال روحه، وتجريده من خصوصياته التي تؤلف سر أصالته. وإن أحسن وسيلة تخدمه هو تركه وحاله في صورته الأولى التي ولد عليها حتى تكتب له الديمومة والاستمرارية.

يحضر التنوّع في الفن الغنائي الأوراسي في إطاره الداخلي وخاصة من ناحية الرقص الجماعي، ويحقق لوحة حركية وجمالية لا نظير لها لما تتوافق نغمات أهازيج الحناجر ودقات البندير وأصوات ارتطام الأقدام بالأرض في خفة ورشاقة. ويتكرر المنظر كالصورة المستنسخة مع مقاطع كل أغنية في رتابة مبهرة تصنع التفاعل المدهش بين الأداءات الغنائية والأفعال الحركية والإيمائية وجمهور المتفرجين. ويعجز النداء الفردي والجماعي الذي يدعو إلى عصرنة الفن الغنائي الأوراسي، ويدَّعي كذبا وزورا محاولة إخراجه من حيز المحلية المغلقة إلى مرابع الفسحة، يعجز عن تحقيق هذه التشكيلة المظهرية الرفيعة والرشيقة بكل جمالياتها الفنية والذوقية، بل تلحق به الإساءات المُضرَّة بكيانه، وتثخن جوهره بجراحات الخيانة المفسدة. ولذا تحتم الواقعية إبقاء هذا الفن بعيدا عن كل ما يسمونه “لمسات التحديث” و”بصمات العصرنة”، وهي في حقيقتها محاولات يائسة تنطوي على خيانة وغدر وتشويه.

لا أحد يستطيع أن يقلد عيسى الجرموني الأوراسي في براعة أدائه الغنائي أو في قوة صوته الناعم حتى لو أعاد ترديد أغانيه التي استطاع أن يؤثث بها خلوده بعد موته. ولهذا الفعل الذي يشبه عمليات السطو القاهرة والباطشة انحناءة منبوذة يحصل معها، وفي كل مرة، تغيير الوجهة إلى هدف تجاري مُدرٍّ للمال والكسب السريع ولو بتغيير نُطق بعض كلمات اللهجة المحلية الشاوية. وأما المزاوجة بين الأصيل من تراثنا الفني الأوراسي والدخيل الغازي، فهو عملٌ هجين غير مرحَّب به وغير مشكور.

وُلد الفن الغنائي الأوراسي في بيئة غير البيئة التي يريد بعضهم نقله إليها نقلا مريعا ومخيفا ولو باغتيال روحه، وتجريده من خصوصياته التي تؤلف سر أصالته. وإن أحسن وسيلة تخدمه هو تركه وحاله في صورته الأولى التي ولد عليها حتى تكتب له الديمومة والاستمرارية.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!