-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

نحو منهجية لبناء نموذج تربوي عملي في الجزائر الجزء الثاني

بقلم: مصطفى عشوي
  • 493
  • 0
نحو منهجية لبناء نموذج تربوي عملي في الجزائر الجزء الثاني

يعد التقويم التربوي الموضوعي الذي يبتعد عن التأثيرات الإيديولوجية، وعن الضغوط التسلطية والمصالح الضيقة، والإكراهات الداخلية والخارجية الأسلوب الأمثل والأنجح في تشخيص واقع النظام التربوي في الجزائر، والانطلاق لبناء نموذج تربوي (نظام تربوي) ناجح يقوم على أساس قواسم مشتركة، وأهداف مشتركة يتفق عليها المجتمع الجزائري من خلال حوار عام ينتهي بصياغة هذا النظام من طرف خبراء نزهاء مستقلين.

يعدّ التشخيص السليم للمشكلة أو للمشكلات كما هو معروف نصف الحل. ولكي يكون التشخيص سليما ينبغي أن يبنى على أسس التقويم التربوي السليم الذي يهدف لتبيان الجوانب الإيجابية والسلبية للنظام التربوي بكل أركانه الأساسية: الإدارة والقيادة التربوية، المعلم، المناهج والبرامج، الكتاب المدرسي، البنية التحتية والأجهزة، والميزانية…

التقويم الشامل:

يُستحسن أن يقوم بتقويم النظام التربوي القائم تقويما شاملا للأركان المذكورة أعلاه عدة أطراف؛ وذلك من أجل تبيان الجوانب الإيجابية والسلبية لهذا النظام بطريقة موضوعية ودقيقة قدر الإمكان. ومن أهم هذه الأطراف أو الشركاء:

1-            الوزارة أو الوزارات المعنية أو من ينوب عنها من معاهد ومؤسسات حكومية متخصصة كالمعهد الوطني للبحث في التربية.

2-            فريق خبراء مستقل يعين من طرف البرلمان أو رئاسة الجمهورية على أسس موضوعية من أهمها: الكفاءة العلمية، الخبرة الميدانية، والالتزام بالأخلاق المهنية في البحث العلمي والتقويم الموضوعي، ونشر أسمائهم وسيرهم المهنية لإعلام الجمهور.

3-            عينات من المعلمين والأساتذة من أطوار التعليم والتخصصات المختلفة.

4-            عينات من مديري مؤسسات أطوار التعليم المختلفة.

5-            تلاميذ وطلاب من مراحل التعليم المختلفة.

6-            عينات من الشركاء الاجتماعيين: أهم الجهات والمؤسسات التي توظف خريجي مؤسسات التعليم سواء كانت حكومية أم خاصة، أولياء التلاميذ والطلاب، نقابات التعليم.

تُجمع البيانات والمعلومات من طرف جهة مستقلة يستعين بها فريق الخبراء، ثم يقوم الفريق بتحليل المعلومات المحصَّل عليها تحليلا موضوعيا، ثم يضع الفريق استنتاجات بناء على ذلك التحليل، ويتخذ ذلك أساسا لاقتراح خطة إستراتيجية لتطوير النظام التربوي أو ما يمكن أـن نسميه نموذجا ناجحا لبناء النظام التربوي في الجزائر.

كيف نبني نموذجا لنظام تربوي ناجح؟

نستعرض فيما يأتي الخطوات المنهجية الأساسية التي ينبغي إنجازها من أجل بناء نموذج تربوي ناجح دون الخوض في محتويات هذه الخطوات وعناصرها الأولية:

1-            الاعتماد على تقارير التقويم التربوي من المصادر المختلفة المذكورة أعلاه.

2-            القيام بالتحليل الرباعي لبيئة أو محيط النظام التربوي (SWOT Analysis)، يبين فيه:

أ‌)           نقاط القوة في النظام التربوي الجزائري.

ب‌)      نقاط الضعف في النظام التربوي الجزائري.

ج) التهديدات والتحديات التي تواجه النظام التربوي الجزائري.

د) الفرص الموجودة في البيئة أو المحيط لتغيير وتطوير النظام التربوي الجزائري.

3- وضع رؤية متوسطة المدى وأخرى بعيدة المدى للنظام التربوي:

مفهوم الرؤية: استعمال البصيرة والذكاء بأنواعه المختلفة لإدراك المستقبل جيدا على ضوء التقويم الموضوعي للنظام التربوي القائم وتاريخه، وفي ضوء التجارب الدولية المختلفة، وفي ضوء الأهداف المستقبلية العامة للنظام التربوي التي يريد المجتمع الجزائري تحقيقها.

مثلا، يمكن أن تكون الرؤية في المدى المتوسط: “أن يصبح النظام التربوي الجزائري من أحسن الأنظمة التربوية في إفريقيا بحلول عام 2030”.

4- وضع رسالة للنظام التربوي:

توضع رسالة للنظام التربوي بناء على القواسم المشتركة التي يجمع عليها الخبراء والشركاء الاجتماعيون، ويحددونها بناء على رؤية النظام التربوي المراد تحقيقها.

مثلا: إعداد أجيال واعية، وذات كفاءة وفعالية لتحقيق طفرة في التنمية الشاملة للبلاد.

ينبغي أن نشير إلى أن رؤية أي نظام تربوي ورسالته هما اللتان ترسمان خريطة الطريق لبقية العناصر مثل القيم والأهداف التي تشكل هذا النظام، وتوضحان أهميتها، وكيفية التكفل بها ومعايير جودتها.

5- تحديد القيم الأساسية التي تقوم عليها عملية تربية النشء نظريا وتطبيقيا:

مثلا: الوطنية، الصدق، الأمانة، حب العمل، تحمل المسؤولية، الاعتماد على النفس والمبادرة، تقدير العمل اليدوي والمهني، حب العلم، احترام الآخرين، حب العائلة، النظافة…

6- وضع أهداف متوسطة المدى وبعيدة المدى للنظام التربوي:

توضع أهداف ضمن إستراتيجية قصيرة المدى ثم أهداف ضمن إستراتيجية متوسطة المدى ثم أهداف ضمن إستراتيجية طويلة المدى.

7- وضع استراتيجيات لتحقيق الأهداف:

ونقصد بالإستراتيجية هنا حشد الموارد المالية والبشرية والتقنية والفنية، وإعداد البنية التحتية لتحقيق الأهداف ضمن آجال وإجراءات محددة مع تحديد الجهات المسؤولة على توفير هذه الموارد، ومتابعة العمليات التطبيقية، وتقويم الأداء في هذا الإطار.

ينبغي أن نوضح أن استراتيجيات تحقيق الأهداف تكون قصيرة المدى، متوسطة وبعيدة المدى.

أ‌)           إستراتيجية قصيرة المدى (سنتان- 5 سنوات):

تتضمن هذه الإستراتيجية: التعامل الجدي والسريع مع القضايا العاجلة المهمة والعالقة منذ زمن طويل، والبتّ فيها بصفة نهائية بقرارات شجاعة وشفّافة بناء على معايير موضوعية. ومثال ذلك: وضعية الأساتذة المتعاقدين والمستخلفين، الهياكل المهترئة، الأمن داخل المؤسسات التربوية، معايير انتقاء المعلمين وتوظيفهم وترقيتهم، رواتب المعلمين، تقويم أداء المسؤولين الإداريين في قطاع التربية موضوعيا واستبعاد من لا يصلح منهم، التكوين المستمرّ للمعلمين والإداريين وفق برنامج علمي يعدّه خبراء، وتقويم أداء المعلمين والأساتذة تقويما موضوعيا وعلميا وبصفة مستمرة، وربط تقويم الأداء بالتكوين والترقية والحوافز…

ينبغي أن لا تستمر هذه الفترة أكثر من خمس سنوات.

ب‌)      إستراتيجية متوسطة المدى (خمس إلى 10 سنوات):

تتضمن هذه الإستراتيجيةُ ما يأتي:

1-            ربطَ إصلاح التعليم العالي بإصلاح التعليم الأساسي.

2-            ربط التكوين المهني بالتعليم الأساسي والتعليم الجامعي.

3-            التعاملَ الجدي مع قضية اللغة الانجليزية في المرحلة الابتدائية وما يليها من مراحل، وإعطاءَها مكانة أساسية.

4-            تقوية اللغة العربية والعلوم والرياضيات.

5-            التركيزَ على الرقمنة وما يرتبط بها من شبكات وأجهزة وتكوين مستمر للمعلمين والتلاميذ والطلاب، وتدريب المدربين.

6-            ترسيخ الثقافة الجزائرية بأبعادها المتنوعة نظريا وعمليا في المناهج والبرامج.

7-            ترسيخ القيم الأساسية والأخلاق العملية في سلوك التلاميذ والطلاب مثل الروح الوطنية، الاعتزاز بالهوية الوطنية، التعاون، العناية بالبيئة، تقوية روابط الأسرة، حب العمل، تثمين الوقت، واحترام المواعيد والوعود، وغير ذلك من الأخلاق العامة المستندة إلى الدين الإسلامي والأعراف والتقاليد في البيئة الجزائرية.

8-            تقوية الأنشطة غير الصفِّية والتفتح على البيئة بأبعادها المختلفة.

9-            التركيز في هذه المرحلة على جودة التعليم والنظام التربوي ككل:

تستند معظم محاولات تعريف الجودة في ميدان التعليم إلى مبدأين اثنين حسب اليونيسكو وهما:

أ) التطور المعرفي لدى الدارسين (التلاميذ والطلاب).

ب) دور التعليم في النهوض بالقيم وأنواع السلوك المختلفة المتصلة بالمواطنة المسؤولة، وفي تحقيق التنمية العاطفية والإبداعية ((UNISCO, 2004.

ويمكن أن نضيف مبدأين آخرين وهما:

ج) دور التعليم وقطاع التربية في التنمية الشاملة في البلد، وترقية ثقافة الجودة في المجتمع.

د) الاهتمام بالمعلم: يعتبر الاهتمام بالمعلم من شتى الجوانب من أهم القضايا التي ينبغي أن يوليها النظام التربوي في الجزائر أهمية قصوى إذا أردنا أن نحدث طفرة إيجابية في قطاع التربية والتعليم. وهذا ماأكده تقرير لليونسكو منذ سنة 2004 على تأثير المعلمين تأثيرا كبيرا على جودة التعليم؛ إذ يؤدون دورا محوريا على صعيد دعم عملية التعلم وتحسين أداء التلاميذ (UNISCO, 2004).

10-         تشجيع القطاع الخاص على الاستثمار في التعليم العالي وغيره بشروط موضوعية، وقوانين شفافة، ومراقبة مباشرة من طرف وكالة وطنية للجودة تكون مستقلة عن كل الوزارات.

ج) استراتيجية طويلة الأجل (11-20 سنة): تقوم هذه الإستراتيجية أساسا على:

1- العمل بجدية ونفس طويل لتحقيق الأهداف المسطرة حسب رؤية ورسالة قطاع التعليم والتربية.

2- تبني معايير دولية في تحسين النظام التربوي من كل الجوانب، وإعطائه الأولوية من حيث الموارد البشرية والمالية وغيرها.

3- تقويم النظام التربوي كل خمس سنوات تقويما موضوعيا بناء على معايير موضوعية دولية من طرف خبراء نزهاء مستقلين بناء على هذه المعايير ونتائج البحث العلمي التربوي والنفسي في بلادنا وليس من منطلقات إيديولوجية.

4- إدخال التعديلات الضرورية لتطوير النظام التربوي بعد القيام بالتقويم الموضوعي وفق معايير دولية.

خاتمة:

من الصعب جدا وضع خاتمة لموضوع يتعلق ببناء نموذج تربوي ديناميكي ومتطور خاصة في بلد كالجزائر؛ إذ لم يخضع النظام التربوي القائم منذ استرجاع السيادة الوطنية لتقويم موضوعي شامل من طرف الخبراء والشركاء الاجتماعيين بعيدا عن تدخل مباشر للسلطة القائمة ونظامها السياسي.

تُجمع البيانات والمعلومات من طرف جهة مستقلة يستعين بها فريق الخبراء، ثم يقوم الفريق بتحليل المعلومات المحصَّل عليها تحليلا موضوعيا، ثم يضع الفريق استنتاجات بناء على ذلك التحليل، ويتخذ ذلك أساسا لاقتراح خطة إستراتيجية لتطوير النظام التربوي أو ما يمكن أـن نسميه نموذجا ناجحا لبناء النظام التربوي في الجزائر.

ونحن لا ندّعي أنّ بوسع أيِّ جهة اقتراحَ نموذج مثالي ونهائي لمستقبل النظام التربوي في الجزائر، بل ما تم اقتراحه ليس إلا تصورا لمنهجية قابلة للنقاش والنقد والإثراء من أجل بناء هذا النموذج الذي ينبغي أن يشترك في بنائه جميعُ الشركاء الاجتماعيين المعنيين إلى جانب خبراء موضوعيين بعيدا عن التأثيرات الاديولوجية والصراعات السياسية إذا أردنا أن نجعل تقدم البلاد وتطورها هو القاسم المشترك لجميع أبناء الجزائر.

يعدّ التشخيص السليم للمشكلة أو للمشكلات كما هو معروف نصف الحل. ولكي يكون التشخيص سليما ينبغي أن يبنى على أسس التقويم التربوي السليم الذي يهدف لتبيان الجوانب الإيجابية والسلبية للنظام التربوي بكل أركانه الأساسية: الإدارة والقيادة التربوية، المعلم، المناهج والبرامج، الكتاب المدرسي، البنية التحتية والأجهزة، والميزانية…

وباختصار، فإن التجارب الدولية قد بيَّنت أن إصلاح أي نظام تربوي إصلاحا جذريا أو تطويره ينبغي أن ينبع من إرادة سياسية مستقلة ومن إرادة مجتمعية مدركة لتحديات الحاضر والمستقبل، وأن تتعاون الإرادتان لتطوير النظام التربوي وفق معايير دولية في إطار تخطيط استراتيجي فعال؛ وذلك بهدف تحقيق طفرة في التنمية الشاملة بالبلاد.

وقد بيّنت التجارب أيضا أنه لا يمكن فصل أي محاولة لتطوير النظام التربوي القائم عن سياقه التاريخي والاجتماعي والثقافي، وعن الرؤية والرسالة والقيم والأهداف التي توجه عملية التطوير من شتى الجوانب.

المراجع:

A Nation At Risk: The Imperative For Educational Reform

April 1983. Retrieved on June 2, 2022. https://web.archive.org/web/20201029222248/https://www2.ed.gov/pubs/NatAtRisk/index.html

Robeyns, I. (2006). Three models of education: Rights, capabilities and human capital. Theory and Research in Education. Sage publications, www.sagepublications.com

Vol. 4(1) 69–84 ISSN 1477-8785 DOI: 10.1177/1477878506060683

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!