الرأي

نساء ثورة لا تنسى

عمار يزلي
  • 2279
  • 6

تعود بي الذاكرة إلى السنوات الأولى بعد الاستقلال، كلما حل عيد وطني، لأعيد تنظيم أفكاري المبعثرة وأعيد ترتيب ذاكرتي التي بدأت تتلاشى.
كان ذلك خلال أشهر الصيف، حيث تكثر الأعراس بمنطقتنا. ففي الصيف خلال السنوات العشر التي أعقبت الاستقلال، لم تكن الأعراس لتمر دون ذكر الشهداء والتغني بهم من طرف النساء ضمن ما يسمى بأغنية الصف. هذه الأهازيج التي بقيت تحفر ذاكرتي وتشنج فكري إلى أن حان موعد الاشتغال على الذاكرة ضمن مشروع للماجستير في الثقافة الشعبية بتلمسان نهاية التسعينيات. اخترت عنوانا لمذكرة الماجستير: صدى الثورة الجزائرية في الأهازيج النسوية بمنطقة “ترارا” بولاية تلمسان، حيث كان المشرف علي الصديق الأستاذ والشاعر الفلسطيني الكبير عز الدين المناصرة. هذه الرسالة صدرت في ما بعد في كتاب سنة 2009 عن منشورات جمعية البيت التي كان يرأسها الصديق الصحفي والشاعر أبو بكر زمال.. بعنوان “ثورة النسا”
لا أريد أن أعود إلى هذا العمل بقدر ما أريد أن أوضح تفصيلا لم أتطرق إليه إلا عابرا في الكتاب ضمن أسباب اختياري للموضوع، وهو أن النساء اللواتي كن يؤدين هذه الأهازيج عادة ما كن يسقطن مغشيا عليهن من فرط التأثر وهن يذكرن أسماء الشهداء الذين عادة ما يكونون أزواجا لهن أو أبناء أو آباء أو أحد الأقارب المقربين..
الأعراس كانت مناسبة لتذكر الشهداء.. الأفراح كانت تذكرنا بشهدائنا، فنبكيهم أثناء الأعراس. ليس فقط في الأعراس، بل في كل مناسبة دينية ووطنية.. الشهيد كان حاضرا وبقوة.. بل وبشكل ملفت، مما يدعوك كشاب وقتها إلى التعلق أكثر بالثورة وأمجادها ويجعلك تعرف وتفهم معنى المعاناة التي واجهتها المرأة بقوة وهي تغني زوجها الشهيد أو أخيها أو أباها.. أو ابنها..
كانت المرأة ثورة لوحدها توازي ثورة الرجال. كان هناك نوع من تقاسم الأدوار كما تقول إحدى الأهازيج التي جمعتها وعددها نحو 180 أهزوجة عن الثورة: “أنت جاهد وأنا نغنّي.. حتى نتلاقاو في الحريّة”.. هكذا تخاطب الزوجة زوجها أو الخطيبة خطيبها. نجد الثكلى، أحيانا ترثي نفسها: “وليدي أنا خلاّلي زوج بنيّات.. مشى يجاهد في الجبل ومات”، أو تتوعد مفجوعة، الخائن الذي وشى بالجنود الذين كانوا متخفّين في “كهف راس الواد” (فلاّوسن) بهذه الطريقة:” يا للّي باع الكاف دي راس الواد.. أرزيه في الصحة وفي لولاد”، أو تتوعد بالحساب يوم القيامة من خالفوا وعد الشهداء وخانوا الأمانة: “لحساب حتى لديك الدار… يا للّي خالفتوا على الشهداء”.. أو تتوعّد وتتحدى بقوة الخونة الذين كانوا يساعدون في تطويق المقاومة ويخربون الأكل والأواني لقطع المؤونة والغذاء عن المجاهدين: “يا لحركي يا للي غادي “تْسركلْ”… احرق القدرة وزيد الطاجين”
كما نجد المرأة الباكية لشهدائها والممجدة لزعماء الثورة ورجالها ترفض أن تتعامل مع فرنسا حتى في مجال الصحة: “والله الرومي لا داواني.. حتى يجي الطبيب الوطني”. إنها ترفض أن تعالج عند فرنسا في مجمعات La SAS.. كما نجدها أيضا تتحدى فرنسا سياسيا من خلال رفض انتخاباتها وانتخاب سياسة ديغول: “لو كان يجرّوني على شطب القندول.. ما نفوطيشي على ديغول”، أو أيضا: “نعيش “بتافغة” و”القندول”.. وما نفوطيش على ديغول”. إنه التحدي والرفض والمقاومة بكل الطرق، مهما صعبت..
المرأة هنا، تملكها الوعي بأن هذه الأرض جزائرية وستبقى كذلك.. وعلى المستعمر أن يرحل: “روح تروّح يالرومي بركاكْ… هذه بلادنا مش بْلادْ ابّاك”، أو أيضا هذه اللازمة التي عادة ما تتكرر بين أهزوجة وأخرى.. لتذكير فرنسا بأن عليها أن ترحل ذات يوم.. لأن البلد ليس بلدها.. وأنها كما تأتي الفيضانات بالأوحال، الوادي سيجرفها من غير محال: “جابتك الحملة ودّاك الواد… يا فرنسا ما عندك بلاد”.

مقالات ذات صلة