-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

نظرات في برامج الجامعات الإسلامية

نظرات في برامج الجامعات الإسلامية

إن العلوم الإسلامية مادة حية، لم توجد لتبقى حبيسة قوالب معلبة، بل وجدت لصناعة إنسان حي قادر على القيام بوظيفة الاستخلاف في الأرض، ولن يتأتى له ذلك إلا إذا نجح في تحويل هذه العلوم إلى مشاريع عملية توجه لعلاج مظاهر الوهن الحضاري في الأمة الإسلامية.

هناك حشد مفرداتي لافت للنظر في برامج العلوم الإسلامية يشمل مواد تجديد الفكر الإسلامي والمالية المعاصرة وفقه الأسرة وفقه الدولة والتجديد الحضاري، ولكن هذا الحشد المفرداتي يقابله عجز كامل في تحويل هذه المفردات إلى مشاريع قابلة للتطبيق، ولهذا السبب ولأسباب أخرى يطول ذكرها، بقي الحديث عن تجديد العلوم الإسلامية وما يتصل به من مسائل المالية المعاصرة وفقه الأسرة وفقه الدولة أمرا نظريا لم يجد طريقه للتطبيق في المجتمعات الإسلامية، وتقع مسؤولية ذلك بالدرجة الأولى على الجامعات الإسلامية التي تحتاج إلى تعديل عاجل وشامل في سياستها التعليمية وفي خريطتها البرامجية حتى تكون مؤهلة لمواجهة الرهانات الكثيرة التي يفرضها عصر العولمة.

تعد برامج تجديد الفكر الإسلامي برامج قارة في الجامعات الإسلامية وفي اعتقادنا أنه لن يكون للتجديد معنى إذا لم يكن الهدف منه وضع هذه البرامج على محك الواقع واستثمار ما فيها من عناصر القوة لعلاج مظاهر الوهن الحضاري في الأمة الإسلامية، كما أنه لن يكون للتجديد معنى باستبدال مصطلحات قديمة بأخرى حديثة. إن التجديد الحقيقي للفكر الإسلامي لا يتحقق إلا إذا كانت صفة التجديد كامنة في هذه البرامج فنرى ثمرتها ونتاجها في المجتمعات الإسلامية. ويبدو من خلال سبرنا لبرامج الجامعات الإسلامية أن هذا التجديد لا يزال غاية بعيدة المنال وخاصة حينما نرى نسبة كبيرة من النخب العلمية في الجامعات الإسلامية التي وكل إليها تدريس الفكر الإسلامي لا تزال فكريا حبيسة القرن الأول أو القرن الثاني الميلادي وليس لها من ثقافة الإبداع إلا ترحيل خلافات هذه القرون إلى هذا القرن رغم اختلاف الحال وتغير الزمان.

لقد أهدرت النخب الفكرية في الجامعات الإسلامية وقتا طويلا في الحديث عن أنساق ومدارس الفكر الإسلامي وخلافات القدامى والمحدثين وأمعنت في حشو أذهان طلابها بمادة فكرية نظرية ليس فيها من معالم التجديد إلا ما تحمله النماذج الورقية المعدلة التي تصيغها اللجان البيداغوجية عند كل دخول جامعي. إن للفكر الإسلامي مظاهر قوة كثيرة وقفنا عليها في دراسات بعض المستشرقين الذين أقروا بأن كثيرا من أزمات الإنسان ومشاكل العمران تجد حلها في الفكر الإسلامي، هذه شهادة حية من المستشرقين ليت الباحثين في الجامعات الإسلامية يدركونها ويضعونها نصب أعينهم من أجل الرقي بمادة الفكر الإسلامي وتحويلها من مادة نظرية إلى مادة عملية.

لقد ضحك كثير من الباحثين في الفكر الإسلامي في جامعاتنا الإسلامية على أذقاننا بترديد مصطلح تجديد الفكر الإسلامي لأننا لم نلمس شيئا من هذا التجديد في واقعنا وهذا خلافا لما هو قائم في الجامعات الأخرى، فقد نجحت المعاهد الدينية في الصين في الاستثمار في تعاليم حكيمها “كونفوشيوس” وحولت فلسفته إلى نظام حياة واستطاعت بذلك أن تقفز قفزة نوعية غير مسبوقة، كما نجحت المعاهد الدينية اليابانية في الاستثمار في فلسفة “أهورا مازدا” وجعلت منها فلسفة حية بالرغم من أنها كانت تعد من الفلسفات الميتة في زمنها. واستطاعت المعاهد الدينية في الهند الاستثمار في تعاليم رجالها الدينيين ونفضت عن المجتمع الهندي قليلا من غبار السنين الذي أصابها.

إن الصورة في جامعاتنا الإسلامية مختلفة تماما عن الجامعات الصينية واليابانية والهندية، فمادة الفكر الإسلامي في جامعاتنا مادة ميتة تشبه إلى حد بعيد المومياءات المحنطة التي غاية ما برع فيه الفراعنة القدامى تحنيطها للحفاظ على صورتها. إن الصورة لا تغني عن الجوهر والجوهر لا يتحقق إلا بوجود قابلية للحياة، وللأسف أن الفكر الإسلامي فكر حي أماته أهله وهذه حقيقة نقولها للتاريخ رغم مراراتها.

وأتوجه هنا إلى المتخصصين في فكر مالك بن نبي فأقول: إن فكر مالك بن نبي فكر متجدد وليس فكرا جامدا وإن تطوير هذا الفكر لا يتحقق بتنظيم ندوات ولا بإقامة مؤتمرات وتأسيس ورشات ولا حتى بتأسيس مؤسسة تحمل اسم مالك بن نبي وتهتم بنشر تراثه الفكري فهذا مطلوب ومرغوب وجهد يذكر فيشكر ولكن تحويل فكر مالك بن نبي إلى مشاريع عملية هو التحدي الأكبر الذي نتوق إليه ولكن لم يرتق إليه الباحثون في فكر مالك بن نبي باستثناء ما قامت به بعض الجامعات الماليزية التي استخرجت من فكر مالك بن نبي حقائق مدهشة فحققت بذلك ما لم تحققه الجامعات الإسلامية والعربية مجتمعة.

لقد غلبت ثقافة التكرار والاجترار على برامج الفكر الإسلامي في الجامعات الإسلامية وتقلصت في المقابل جهود تطوير هذا الفكر واستخلاص عناصر القوة الكامنة فيه، ولهذه الانتكاسة أسباب كثيرة لعل أهمها أن مادة تجديد الفكر الإسلامي أسندت في كثير من الأحيان لغير أهلها – ولو كانوا من المتخصصين- فكانت النتيجة الحتمية ما نراه من تردي مستوى الدارسين للفكر الإسلامي في الجامعات الإسلامية الذين يبدع بعضهم في تحرير مواضع النزاع بين المدارس الفكرية المختلفة ولكنه يعجز كل العجز عن إدراك ماهية الفكر الإسلامي واستكشاف عناصر التجدد الكامنة فيه.

ولا يقتصر الضعف في برامج الجامعات الإسلامية على مادة الفكر الإسلامي بل يتعداه إلى مواد المالية المعاصرة والإعلام والاتصال وغيرها، فكيف لباحث في فقه العبادات أن يسند إليه تدريس المعاملات المالية المعاصرة وكيف لعاجز في هذا الميدان أن يكوّن غيره أو يخرج لنا متخصصين في مجال المالية المعاصرة !! إن المكون في مجال المالية المعاصرة بحاجة إلى تكوين فإذا حققنا ذلك استقامت المعادلة وحق لنا أن نتحدث عما يسميهم بعضهم “طفرة” في مجال تدريس العلوم الشرعية ويتباهى بعضهم بأن جامعته قد حققت السبق في تطعيم برامج العلوم الإسلامية بتخصصات جديدة، إن الجدة ليست في جدة المصطلح بل في جدة الدراسات التي تتطلبها. وكيف لباحث في الإعلام الكلاسيكي أن ينتظر منه تخريج طلبة متميزين في الإعلام البديل أو الإعلام الجديد وتكنولوجيات الإعلام والاتصال وهو خلو من هذا كله وطلابه على هذا المنوال ” ضعف الطالب والمطلوب”.

إن الجامعات الإسلامية التي نشهد في برامجها تنوعا مفرداتيا عند كل دخول جامعي لم تستطع أن تخرج لنا نخبة متميزة متمرسة قادرة على تحويل أفكارها النظرية إلى مشاريع رائدة وسيبقى هذا حالها إلا إذا استطاعت تحقيق الشروط التي أشرت إليها في هذا المقال، عندها فقط يمكننا أن نقول بملء لساننا إننا ورثة فكر الجويني وفكر الأشعري وفكر الشافعي وقادرون على ضخ دماء جديدة في موروثنا الفقهي والفكري.

إن ضعف البرامج ليس مقصورا على الجامعات الإسلامية بل هو مرض عام تعاني منه الجامعات العربية عموما في مجالات العلوم الفلسفية والاجتماعية وغيرها، ونضم رأينا في هذا الصدد إلى رأي “إدريس نغش الجابري” الذي كتب في “منصة الإبداع العربي” عن ظاهرة أخرى من مظاهر الضعف الذي تعاني منه الجامعات العربية وهو الضعف الإبستمولوجي، حيث يقول:”..ويبدو أن اطلاع أساتذة الجامعات على التيارات الإبستمولوجية الغربية وتطبيقها على الفكر العلمي الإسلامي الذي لم يشهد حركة علمية مواكبة، ثم تضخيم هذا النظر الإبستمولوجي لدرجة جعله المنهج الوحيد لدراسة الفكر الإسلامي بكل اختصاصاته، ودون مراعاة شروط هذا المنهج وحدوده، ولا خصوصية الموضوعات المدروسة وخصائصها، كان بداية الإصابة بمرض (قصر النظر الإبستمولوجي) الذي تفاقم عند بعض أشباه الباحثين حتى أصيبوا بالعشى والعمى، حتى لم يعودوا يرون فرقا بين أبسط المفاهيم العلمية المستعملة”.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!