نوفمبر بين “بن عودة” و”نزار”
نختلف كجزائريين، في كثير من الأمور التاريخية، إلى درجة الشجار، وحتى العداء، كما اختلفت وتختلف جميع الأمم في كل الأمصار والأزمان، ولكننا في قضية الثورة الجزائرية، نتفق ويتفق معنا العالم بأسره، بكونها واحدة من الأساطير التي ميزت مقاومة الإنسان للاستعمار. وإذا كانت أمم كثيرة قد صنعت من “اللاشيء” الذي لم تعشه أصلا أشياءَ وبطولات. فإننا عجزنا أن نقدّم أنفسنا لغيرنا، ونحن الذين صنعنا واحدة من أعظم الثورات في العالم، التي فجّرتنا من تحت ردم، عمل الاستعمار على تجميعه على مدار قرن وثلث قرن.
وبدلا من أن يبدأ جهادنا الأكبر، بعد انتصارنا في جهادنا الأصغر، حتى نصبح نموذجا، كما حدث في جنوب إفريقيا أو الفيتنام، عندما تحوّلت نار الثورة إلى نور التطوّر، مازلنا نصرّ على أن نشوّه جهادنا الأكبر، ببعض “المجاهدين” الذين لا همّ لهم سوى ملذات الدنيا، من سيارات ومساكن ومنح وحتى حانات، وآخرين باشروا الضرب في “المليان”، الذي يصيب الجميع، ولا يصيب الضارب، الذي يرى نفسه ملاكا لا يخطئ أبدا، ويرى الآخرين شياطين يخطئون دائما.
مسلسل “التخوين” الذي بدأ بين العقيد عمار بن عودة والجنرال خالد نزار، والذي يبدو بأنه أطول، وربما أشدّ “ضراوة” من سنوات الثورة نفسها، يبيّن مدى الانحراف الذي عرفه مسار ما بعد الثورة، لأن المشكلة الآن لم تعد في الرجلين، لأن المؤكد بأن أحدهما أو كلاهما على زور، ولا يمكن أن يكونا معا بريئين من هاته الاتهامات الخطيرة جدا، وإنما المشكلة في الصامتين، من الذين أسمعونا على مدار أكثر من نصف قرن حكايات “ذوي الحقوق والأسرة الثورية”، والزمالة لهذا الطرف أو ذاك أو لكليهما، وعندما اشتد وطيس الجدل، وبلغ درجة الخطورة، صاموا عن الكلام، إما لعلمهم بأن أحد “القاصفين” على حق، وتلك مصيبة كبرى، أو غير مبالين بما يحدث، وتلك مصيبة أخطر.
لا يمكن أن يبقى الفاتح من نوفمبر، مناسبة لتكرار خطابات الخشب، التي يقرأ فيها بعض المسئولين بيانات قديمة، لا يفقهون حتى معناها، ولا يمكن أن يبقى يوما، لتوزيع النوم والخمول على الطلبة وبقايا العمال، أو فرصة لفتح قائمة من الطلبات و”الحقوق” لأحفاد الشهداء وأبناء و”جيران” المجاهدين، ولا يمكن أيضا أن يتحوّل إلى مناسبة، يستغلها الذين نصبّوا أنفسهم بالقوة قادة مدى الحياة، لتمجيد الذات، وذبح الآخر، في الزمن الذي يريدون والمكان الذي “استعمروه”.
نوفمبر هو ذكرى العمر، وكل القرون والأجيال، والذكرى تنفع دائما المؤمنين، الذين غالبيتهم من الشباب، الذين لم يعيشوا الحدث بناره وآلامه، وعندما نضع شابا بين حاضر مبهم ومستقبل غامض، ثم نصعقه بماض على وزن روايات بن عودة ونزار، فإننا سننسف المنفعة المرجوّة من الذكرى، ولكم أن تتصوّروا شابا يقرأ عن أحد رجالات الثورة الـ 22، وهو يتورّط في اختفاء باخرة من السلاح، كما جاء على لسان خالد نزار، أو عن صانع الرؤساء ومجبرهم على الاستقالة، وهو يقضي الليالي الحمراء مع السفاحين الذين أبادوا الأبرياء من هذا الوطن، وبأن بومدين خان بوالصوف، وبأن الجزائريين هم الذين اغتالوا عبان رمضان.. ولكم أن تتصوّروا حالة هذا الشاب التائه في نوفمبر بالذات؟