نوفمبر “كائن” جزائري
إذا كان شهر رمضان، بالتقويم الهجري، هو شهر الانتصارات الإسلامية الكبرى، من غزوة بدر، إلى فتح مكة المبين، فإن شهر نوفمبر الميلادي، هو شهر الملحمة الكبرى، التي قدمت الجزائر للعالم، بعد أن ظن الكثيرون بأنها انتهت في عام 1830، ومُسحت من الوجود على مدار قرن وثلث قرن، بشهورها الميلادية والهجرية و”نوفمبرياتها” التي توالت وتشابهت، إلى أن حان فاتحها الخالد، ففتح على الجزائريين أشهرا لم يكونوا يعرفونها وأعواما من الحرية كادوا ييأسون من تحقيقها، وجعلت من هذا الشهر عيدا لكل الأمم، التي ما إن تذكره حتى يقترن اسم الجزائر به، حتى صار كائنا جزائريا وكيانا قائما بذاته، لا علاقة له بالزمان ولا بالمكان، وإنما رمز ا وتحفة ونشيدا وملهما، بدأ برصاصة وصيحة وانتهى بتحرير البلاد والعباد.
إلى زمن قريب، لم يكن يزور الجزائر، شاعر عربي من عبد الوهاب البياتي إلى محمد مهدي الجواهري، إلا وأحضر معه ملاحم ودواوين شعر، تتفجر نارا ونورا قربانا للجزائر ويشعر بالتقصير، ولم يكن يغني في الجزائر مطرب من عبد الحليم حافظ إلى فايدة كامل، إلا وقرع بحنجرته طبول حرب خالدة ونصيح في وجهه هل من مزيد، ولم تكن تطأ قدما رئيس دولة أو ملك أو إمبراطور تراب الجزائر، إلا وارتعشتا رهبة من أرض سمع بأنها غارقة في طوفان من دماء مليون ونصف مليون شهيد، ولم يبق نوفمبر لحن عزفه بليغ حمدي أو خطاب تفضل به فيدال كاسترو أو قصيدة أبدعها سليمان العيسى، وإنما مقرّر دراسي، لا تحتويه المعاهد والجامعات، بل يسري في الحياة مثل الهواء.
كان من المفروض أن يلد الشهر العظيم، شهورا وسنوات من الأعياد، كما تفعل عادة الأشهر العظيمة لدى الأمم، فولد نوفمبر شهر جويلية، وعقمت البطن نهائيا وصرنا ننتظر الشهور، فتتوالى وتتشابه، وحتى الشعراء والمغنون والزعماء الذين صاروا يزورون البلاد أمسوا يملئون أيامنا غزلا وافتخار بأنفسهم وبأمصارهم ورقصا وهراء ولا تكاد نسمات ولا عواصف نوفمبر تخيّم على لقاءاتنا مع الآخرين ولا مع بعضنا البعض، ومازال الحرمان يمزق مئات الآلاف من العائلات التي تشبثت بحبل نوفمبر، ومازال الشباب الذي رضع “لبنا نوفمبريا” يبحث عن زورق النجاة، ومازلنا نتبع الآخر، ونقلده ويستعمرنا في خبزنا وحليبنا ومركبنا وثقافتنا، ونحن الذين عقدنا العزم ذات نوفمبر، أن نحيا وطلبنا من العالم أن يشهد على ذلك.
لكل “نوفمبر“، ديسمبر وجانفي وفيفري، وكما يلد الشهر العظيم شهورا وحياة، تلد الثورة الكبرى ثورات في جميع المجالات، ولن يكون أي معنى لنوفمبر إذا لم يمنحنا شهورا نتحرر فيها من تبعية الزراعة والصناعة والتكنولوجيا.
لقد كان لنا نوفمبر عظيم منحنا الحياة والوجود، والسؤال ماذا فعلنا في هذا الكيان، وهذا العضو قد اشتكى، ولكن للأسف لم تتداع لشكواه بقية الأعضاء؟