نوّابنا الفقراء!
إذا صحّت الأنباء، التي تحدّثت عن أن بعض النواب قد أحيوا المطالب التي تقدموا بها في عام 2013، برفع أجورهم والحصول على امتيازات أخرى تتعلق بالتقاعد والعطلة الخاصة وجواز السفر الديبلوماسي… مقابل تمرير التعديل الدستوري القادم، فسيكون ذلك ابتزازاً مفضوحاً وانتهازية سياسية وأنانية تكرّس الأحكامَ الصادرة فيهم لدى الشعب، بأنهم لا يريدون من خلال سنوات النيابة الخمس سوى انتزاع أقصى ما يستطيعون من مكاسب وريوع مقابل الموافقة على كل المشاريع القانونية للسلطة والتخلي عن دورهم الرقابي، وبأن انشغالات المواطنين وقضاياهم التي يقولون إنهم “اُنتخِبوا” للدفاع عنها، هي آخر ما يفكّرون فيه.
في العراق، أقدم رئيس الحكومة منذ نحو عام على تخفيض راتبه ورواتب وزرائه إلى النصف، مراعاة للأزمة الاقتصادية التي تمرّ بها بلادُه بسبب التراجع الحادّ لأسعار النفط، وكذا النفقات الضخمة للحرب على “داعش“، وانسجاماً مع دعوة العراقيين إلى التقشف من خلال البدء بأنفسهم ليكونوا قدوة لهم. أما في الجزائر، فتدعو السلطة الشعب إلى التقشف ولكنها لا تطبّقه على نفسها ولا تخفض رواتب وزرائها ومسؤوليها السامين، ويسير بعض “نواب الشعب” عكس التيار ويطالبون برفع أجورهم بنسبة معتَبرة، عوض أن يكونوا أوّلَ المطالبين بتطبيق الأنموذج العراقي عليهم وعلى المسؤولين السامين للدولة.
البرلمان الحالي يعكس بصدق صورة الوضع السياسي المهترىء بالبلد؛ إذ تكرّست ديمقراطية الواجهة وتوجيهُ نتائج الانتخابات وخلقُ أغلبية نيابية مصطَنعة من أحزاب الموالاة، وأضحى البرلمان امتداداً للسلطة التنفيذية لا يحسن أغلب نوابه سوى رفع الأيدي وتمرير مشاريع قوانينها كلها، وغابت فيه النقاشات المعمّقة عن القضايا المهمّة للبلد، وأصبحت هموم أغلب النواب تنحصر في كيفية الاستفادة من الريوع والمكاسب، ككل المسؤولين، قبل انقضاء عهدتهم النيابية، فهم يعبّرون بصدق عن “الأمراض السياسية” التي تنخر جسم دولةٍ شعبها الفقير في واد، ومسؤولوها في واد آخر.
الملايين من “العمال” في إطار أجهزة “تشغيل الشباب” و“الشبكة الاجتماعية” و“ما قبل التشغيل” و“الأسلاك المشتَركة“… وغيرهم في شتى القطاعات، يعانون فقرا يصل إلى حدّ البؤس بسبب ضحالة أجورهم التي يعرف الجميعُ قيمتها.. وعوض أن يدافع “ممثلو الشعب” عن هذه الفئات ويسعون إلى إيجاد حلول لمعاناتها التي دامت سنواتٍ طويلة، يطالب بعضُهم برفع رواتبهم التي تفوق ما يتقاضاه “عمال تشغيل الشباب” بعشرات المرات.
لو كانت البلاد تعيش ديمقراطية حقيقية قوامها الكلمة للشعب وحده في الانتخابات، لكان للشعب نوابٌ حقيقيون يجعلون الاهتمامات المعيشية الملحّة للمواطنين همّهم الأول، ولكن الجميع يعلم الظروف التي جاءت بهؤلاء النوّاب إلى البرلمان، ولذا لا يرون أنفسهم نواباً يمثلون الشعب، بل مجرد موظفين لدى السلطة التنفيذية مهمتهم الرئيسة هي تمرير كل مشاريعها القانونية. ومن هذا المنطلق، يتحدّثون عن الإطارات السامية ويطالبون بالمساواة معها في الأجور والامتيازات، ويتحدثون أيضاً عن أجور لاعبي كرة القدم والفنانين وغيرهم لتبرير مطلبهم برفع رواتبهم، وكأنهم يرون أنفسهم فقراء مقارنة بهذه الفئات، ورُبّ عذر أقبح من ذنب.