الرأي

هكذا أرغمَ صديقي الطبيب على الهجرة

محمد سليم قلالة
  • 2051
  • 11
ح.م

عرفته طبيبا شابا، اختصاصيا في طب العيون، مفعما بالحيوية والنشاط. الأول في دفعته. أدى خدمته المدنية في إليزي بلا تردد. كان يُعالج عشرات المرضى في اليوم الواحد بالحد الأدنى من الوسائل والإمكانيات. صمد ولم يهُن، وأحبّه الناس هناك… كان يريد تفجير طاقته. كان يبحث عن محيط ملائم يُمكِّنه من التحكم في تخصصه. افتقدته إليزي للأسف. غادرها نحو العاصمة لعله يجد المراد، يجد محيطا يتمكن فيه في ذات الوقت من العمل وتطوير مهارته وقدراته. بدأ يشتعل هنا وهناك لدى عياداتٍ خاصة كانت تفتح له الأبواب. عرفتُه في ثلاثة مواقع على الأقل في أقل من سنة. إن نسيتَ اسمه لا يمكنك أبدا أن تنسى ابتسامته البريئة ولا ذاك الترحاب الذي يلفك به كأنه ابن أو أخ أو صديق. يتعرف عليك، يُحدِّثك عن صحَّتك وأحوالك، ينصحك، يتعامل مع الأجهزة الطبية المختلفة بمهارةٍ عالية أمامك. يُخبرك بآخر ما وصل إلى الجزائر من تكنولوجيا ويُذكِّرك دائما بعبقرية العلماء الذين صنعوا تلك التجهيزات عبر العالم. ولا يتردد في تناول الشأن العام معك إن رأى ذلك ملائما…

وإلى جانب حبِّه لمهنته، يحب بلده حبا جمّا، ويرغب في المساهمة في بنائه بكافة الوسائل. لم يتردد في العمل يومين في الأسبوع مجانا إلى جانب زملائه في قسم جراحة العيون بأحد مستشفيات القطاع العام. كما لم يتردد في قبول الترشح للعب دور في المجالس المحلية. كان يمتلك أملا كبيرا في تحسين الأوضاع، ولو بالنزر القليل، شعاره “لنبدأ بالقاعدة أولا”.

كان يقول لي: “الفرص متاحة في الخارج، ولكني أفضِّل التضحية في بلادي، أن أبدأ من القاعدة، أن أصبر، وسأفعل”. وفعلها… ولم يتم اختياره في الانتخابات المحلية. معايير الاختيار للأسف كانت أخرى غير تلك التي يمتلك. وبدأ  يضيع منه الحلم السياسي؛ حلم العمل من أجل ازدهار بلده وتطوّرها.. وبدأت تضيق لديه ولَديَّ مساحة الأمل..

وأخيرا قَبِل بأن يشتغل براتب شهري قدره 70 ألف دينار جزائري في القطاع  العام ليعيل بها عائلته الصغيرة. لم يكن يسعى سوى للحصول على منصب عمل قار. واقترب من ذلك بعد محاولاتٍ عدة وتدخُّلات كثيرة. ووصل الأمر إلى المراقب المالي. رفض المراقب المالي التأشير على ملفه. بدأ حلمه يتوقف. تذكر أنه حاول إصلاح الأمر من القاعدة  قبل سنة أو أكثر عندما أقنع نفسه بالترشح، وتذكر أنه لم يجد بما يكون به طبيبا اختصاصيا حقا في إليزي، وأن العاصمة لم تقبله، رغم تطوُّعه لخدمتها.. وبدأ يفكر في الرحيل…

قبل أيام التقيتُ أخاه وهو يهمُّ بالجلوس لتناول فنجان قهوة، سألته عنه، ذلك أني لم أزره منذ شهور. قال لي بحسرة: إنه بفرنسا.. لقد سهَّلوا له كل شيء. أعطوا الفيزا لزوجته في يومين، ووجد كل شيء هناك جاهزا.. واغرورقت عيناه.. واحتبستُ الدموع في عيني.. ولم أجد ما أقول لكم اليوم، ولعيوني، وعيون ملايين الجزائريين والجزائريات التي تريد أن ترى مساحة الأمل واسعة: أنني حقا، من غير نظارات لا يمكنني كتابة مساحة أمل..

مقالات ذات صلة