الجزائر
على وقع الانضباط والفلقة والنهوض الباكر

هكذا أنجبت المدارس القرآنية إطارات الجزائر وحاربت التنصير والتجهيل

صالح سعودي
  • 5727
  • 6
الشروق

تحظى مدارس وكتاتيب القرى بالتنويه والإشادة، بناء على دورها في الحفاظ على الأصالة والهوية الوطنية والدينية على مر السنين، حيث كانت سدا منيعا في وجه حملات التنصير والتجهيل والتغريب التي مورست ضد الشعب الجزائري على مدار 132 سنة من الاستدمار، ويرى الكثير بأن الكتاتيب تعد أفضل مكمل للمدارس النظامية في إطار تكريس الأصالة والهوية وإنجاح العملية التعليمية.

يجمع الكثير ممن تحدثوا لـ”الشروق”، على فضل المدارس والكتاتيب القرآنية في إنجاب وتكوين أبرز إطارات وأبطال الجزائر خلافا عن فترة الاستعمار وغداة الاستقلال، حيث كان النجباء يستغلون الفترة الصباحية لحفظ ما تيسر لهم من القرآن على وقع الانضباط والفلقة والنهوض الباكر، ثم يتحولون مباشرة إلى المؤسسات التعليمية من أجل التحصيل الدراسي، حتى يصطادوا عصفورين بحجر واحد، وبالمرة الجمع بين التربية والتعليم بشكل سليم وفعال، خلافا لما يحدث في السنوات الأخيرة، التي أصبحت فيها التربية من آخر الاهتمامات، بسبب التسيّب والمصالح الضيقة التي جعلت المنظومة التربوية ضحية الصراعات والتكتلات.

معلم القرآن.. انضباط وجهد في التلقين رغم الأجر الزهيد

يشكل معلم القرآن نقطة محورية في إنجاح حلقات التعليم القرآني، من خلال تحليه بالانضباط وعدم التلاعب أثناء عملية التلقين أو الكتابة أو أثناء الحفظ ومسح اللوحة، وهو ما يجعل الجميع يأخذون احتياطاتهم لتفادي أي توبيخ أو ضربة بالعصي الطويلة التي تصل أي واحد متواجد في قاعة الكتّاب، خصوصا وأن معلم القرآن يأخذ موقعا مهما يسمح له بمراقبة الجميع، وكان معلم القرآن يتميز بحفظ القرآن عن ظهر قلب، وملما ببعض المبادئ الفقهية، مع التحلي باللباس الذي يعكس الهوية الجزائرية، والاتصاف بالصدق والنزاهة والأمانة، ورغم العمل الكبير الذي كان يقوم به معلم القرآن والهيبة التي كان يتميز بها آنذاك، إلا أنه لم يكن يتلقى راتبا محترما، حيث يحرص أولياء الأطفال على دفع مقدار مالي شهريا أو سنويا وفقا لظروفهم المعيشية، أو تسديد حقوقه بكمية معينة من القمح والشعير والحطب وهدايا أخرى في المواسم الدينية والأفراح العائلية، على خلاف ما يحدث حاليا، حيث تدفع أجرة الأساتذة ومعلمي القرآن من قبل الدولة الجزائرية، بعدما أصبحت وظيفة التعليم العام والقرآني من الوظائف العمومية.

اللوحة والصمغ والنهوض باكرا.. والعصا لمن عصا 

يستعيد الدكتور الناقد عامر مخلوف من جامعة سعيدة ذكرياته مع التعليم القرآني بكثير من الاعتزاز، وفضّل الرد على الذين يصفون جيله بـ”الحرس القديم” (جيل الصمغ) من باب السخرية، معتبرا أن هؤلاء لا يعرفون كيف كانت أوْضاع المدرسة الجزائرية غداة الاستقلال، وأكد بأن المدرسة الجزائرية لم تنطلق إلا اعتماداً على أولئك الذين افتكُّوا ما تيسَّر لهم من التعلُّم في ظروف صعبة، ليدخلوا ممرنين ثم يترقوا تدريجياً بإمكاناتهم الخاصة المحدودة وبأجر زهيد، ويضيف قائلا “كان كل واحد منا ينهض باكراً بثيابه الرثَّة ومعدته الفارغة في حر الصيف كما في عز الشتاء، ويتوجَّه إلى الكُتَّاب وعيْناه على عصا الفقيه وعواقب الفلقة، يذرع اللوحة من أعلاها إلى أدناها، مندفعاً بكامل جسده في حركة دائمة إلى أمام وإلى وراء، يلجلج الآيات القرآنية وسط جلبة “القناديز” وصخبهم وهم من أعمار مختلفة وأصوات متفاوتة، جلوسا ساعات وساعات على حصير أحْرش بال، وكلما ختم حزباً أو نصفه، صَلْصَل اللوحة وزيَّنها بتعرُّجات السمق، وخرج على الناس مزهواً بشهادته التي لا تمنحه منصباً عالياً يدرُّ عليه ربحاً مادياً، إنما تمنحه تميُّزاً فيه ما يسعده من الاحترام والتقدير.

الكتاتيب أفضل مكمّل للمدارس بعيدا عن دائرة الصراع

ولا يتوان جيل الأمس في استغلال أي مناسبة لدعوة تلاميذ اليوم إلى الجدية، لضمان التحصيل الدراسي النوعي، خاصة في ظل توفر الإمكانات المادية والتكنولوجية، مؤكدين على ضرورة أخذ العبرة من الجيل القديم الذي رفع التحدي في أصعب الظروف، وأنجب إطارات فاعلة خدمت الدولة والمجتمع، بفضل حرصهم على أساسيات العلوم والأخلاق في أجواء وصفت بالاستثنائية، وتمنى الكثير أن تبقى الكتاتيب القرآنية أفضل سند ومكمل للمنظومة التربوية بعيدا عن دائرة الصراعات الضيقة، حتى تكون العملية التعليمية وفية حسبهم لخدمة الهوية والشخصية الوطنية، ومواكبة التطورات العلمية والتكنولوجية.

مقالات ذات صلة