-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

هكذا تكون حياتك كلّها عيدا

سلطان بركاني
  • 406
  • 0
هكذا تكون حياتك كلّها عيدا

من رحمة الله بعباده المؤمنين، أنه جعل اليوم الذي يأتي بعد رحيل رمضان، يوم عيد، وشرع فيه إظهار الفرح والسّرور، حتى تذهب عن القلوب المؤمنة لوعة فراق رمضان وهي تعقد العزم على أن تكون أيامها كلها رمضان، لتسعد بطاعة الله في الدّنيا والآخرة.

ولعلّ هذا هو السرّ في أنّ أعياد المسلمين تأتي بعد مواسم تتزاحم فيها الطّاعات وتضاعف الأجور والحسنات؛ فعيد الأضحى المبارك يأتي بعد عشر ذي الحجّة التي قضى الله أن تكون أفضل أيام الدّنيا ويكون العمل الصّالح فيها أحبّ إليه -سبحانه- من بعض أنواع الجهاد في سبيله.. وعيد الفطر يأتي بعد شهر قضى الله أن يكون شهرا للصيام والقيام والذّكر والدّعاء وامتنّ فيه على عباده المؤمنين بعتق الرقاب ومضاعفة الأجور والحسنات أضعافا لا يعلمها إلا هو تقدّست أسماؤه.

مجيء العيد بعد رمضان، يعلّمنا أنّنا لو جاهدنا أنفسنا على طاعة الله، وجعلنا بعض أيامنا للصيام، وبعض ساعات ليلنا للقيام، فستكون حياتنا كلها عيدا وسعادة، ((مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)). وسيكون يوم رحيلنا عن هذه الدنيا عيدا، بل ويكون يوم لقائنا بمولانا الرحيم عيدا. يقول أحد العلماء: “لو عشت حياتك كأنك في رمضان، ستجد آخرتك عيدا”.

في أول رمضان صامه المسلمون مع حبيبهم المصطفى -عليه الصّلاة والسّلام- في السنة 2هـ، كان عيد الفطر يومًا فرِح فيه المسلمون بالتوفيق لصيام رمضان وقيامه، وفرحوا فيه -كذلك- بالنصر المؤزر الذي ظفروا به في غزوة بدر.. اجتمع لهم الفرح بالصيام والقيام، مع الفرح بالجهاد والنصر.. وها نحن هذا العام رغم الآلام والأحزان التي ملأت قلوبنا في الأشهر الستة الأخيرة لما يحصل في غزّة، قد غمرنا فرحان، فرح بإتمام عدة رمضان، وفرح بغزوة خان يونس التي أظفر الله فيها جنده في كتائب العزّ على الصهاينة، في كمين محكم أحال جند البغي والعدوان جثثا متناثرة.. شباب لا يملكون من عدّة الحرب والقتال غير أسلحة وأدوات متواضعة، جعلوا جنود الاحتلال يصرخون مرعوبين ويستغيثون قادتهم كالأطفال!

العيدُ يأتي ضاحِكًا وكأنّه * بَسمـاتُ جُنديٍّ مِـــنَ القَسَّــامِ

يٌهدي إلينـــا فرحةً وكأنّه * أمٌّ تـــزفُّ وليـدَهــا المُتسَــامِي.

وهذا الفرح بالظّفر على الأعداء، يجده كلّ عبد مؤمن يجاهد عدوّه الشيطان، ويرغم نفسه الأمّارة بالسّوء على لزوم طاعة الله واجتناب معصيته.

مجيء العيد بعد رمضان، يعلّمنا أنّ العبد كلّما كان اهتمامه بالغاية التي لأجلها خلق، أهمّ وأوسع، كان أكثر راحة وطمأنينة وسعادة.. والغاية التي لأجلها خلقنا هي أن نعبد الله -تعالى-: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُون)). نحن لسنا في هذه الدّار لأجل أن نجمع الأموال ونأكل ونشرب، ونلتقي لنلغو ونلعب ونلهو، إنّما لأجل أن نحبّ مولانا ونطيعه ونطلب رضوانه ونتقرّب إليه ونخضع له وندعوه ونبكي له.. ووالله إنّه لا سعادة للقلب ولا هدأة للرّوح إلا بهذا. يقول أحد الصالحين: “إنه لتمرُّ على القلب ساعات أقول: إن كان أهل الجنة في مثلها إنهم لفي عيش طيب”.

في يوم العيد، يسري في أرواحنا شعور بسعادة لا تشبه أيّ سعادة أخرى تنتابنا عند تحصيل حظّ من الحظوظ الفانية، سعادة نحسّ معها برقّة قلوبنا وعودة نفوسنا إلى فطرة الخير التي فطرت عليها. وهذا الشّعور فرصة سانحة لإرغام الشيطان، ببذل الابتسامة والكلمة الطيبة ومدّ الأيدي للأهل والأحباب والإخوان، خاصّة أولئك الذين فرّقت بيننا وبينهم دنيا زائلة، هي في حقيقتها أهون وأحقر من أن يعادي بعضنا بعضا لأجلها.

علام التخاصم بين البشر * وحال الحياة كحال السّفر

مؤقتة لا بقاء لها * ودونك أخبار من قد غبر

وموردها شابه كدر * وكل له شربه المحتضر.

سعادة العيد بعد رمضان، ستستمرّ وتدوم بإذن الله، لو أنّنا أحسنّا استغلال المناسبة لإعادة وصل ما قطعه الشيطان من أواصرنا، وإصلاح ما أفسدته الدنيا من أرحامنا.. يقول النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: “لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان: فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام”.. الشيطان يريد لعداواتنا أن تستمرّ حتى لا ترفع أعمالنا إلى الله، ويردّ الله علينا صيامنا وقيامنا وطاعاتنا، وتكون سعادتنا بالعيد سعادة مؤقّتة وزائفة.. من كان يحمل همّ قبول الصّيام والقيام وصالح الأعمال التي حرص عليها في رمضان فليصلح ما بينه وبين إخوانه، خاصّة ما بينه وبين أقاربه وأرحامه. هناك آية في كتاب الله تملأ القلوب الحية رعبا ووجلا، يقول الله -تعالى-: ((فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ))، فالحذر الحذر أن تنزل علينا لعنة الله بسبب هذه العداوات التي استمرّت بيننا سنوات طوالا. ما منّا من أحد إلا وتوسوس له نفسه بأنّه المظلوم في كلّ الخصومات! وأنّ الآخرين هم من ظلموه وهم من يتعيّن عليهم أن يطلبوا منه الصّفح.. والعبد المؤمن الذي يطلب سعادة الدّنيا والآخرة، لا يسمح لنفسه بأن يكون همّها تحديد من المخطئ، وإنّما يرتقي بها لتهتمّ بمن يغلب نفسه ويخزي شيطانه أولا، ويبادر إلى طلب الصفح والعفو من أخيه. فهذا هو من يظفر بحبّ الله وتصيبه رحمته وينزل عليه فضله: ((وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)).

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!